أول 100 ألف فدان في "الجنة الموعودة" تم تخصيصها لشركة "المملكة للتنمية الزراعية" المملوكة للملياردير السعودي الوليد بن طلال، بـ"مميزات وتسهيلات غير مسبوقة وشروط غير مألوفة في أي عقد من العقود التي تبرمها الجهات الإدارية"، على ما جاء في تقرير لهيئة قضايا الدولة كُشف عنه لاحقًا.
الصفقة التي أُبرمت بين الحكومة وشركة "المملكة"، وسُعّر فيها الفدان بـ50 جنيه، ما يساوي 13 دولار فقط لا غير حينها، خالفت القانون الخاص بشأن الأراضي الزراعية الذي قيّد الحد الأقصى للملكية في الأراضي الصحراوية بخمسين ألف فدان، "تم التحايل على ذلك بإخراج العقد من نطاق رقابة القضاء المصري".
الهيئة العامة للتنمية الزراعية التابعة لوزارة الزراعة أبدت في مذكرة رسمية اعتراضها على بنود ذلك العقد، لأنها "مخالفة لنصوص القوانين، فضلًا عن أنها تمس السيادة المصرية"، عُرضت المذكرة على وزير الزراعة حينها يوسف والي، الذي بدوره ضغط على رئيس الهيئة محمد أبو سديرة وطالبه بضرورة التوقيع، لأنّ "الموضوع جاي من فوق".
سلطة مبارك لم تكن تقيم وزنًا لأي مؤسسة أو جهة كفل لها الدستور مراقبة أعمال السلطة التنفيذية
خيوط تلك الصفقة لم تتكشف إلا بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، عندما أمر النائب العام المصري بالتحفظ على أراض الشركة المملوكة للأمير السعودي، وفتح تحقيقات موسّعة مع كل من لهم علاقة بالصفقة.
أماطت التحقيقات اللثام عن تقارير الجهات التي أبدت اعتراضها على بنود الصفقة التي ما كان لها أن تُبرم إلا بضغوط "الناس اللي فوق".
مراحل صفقة بيع أراضي توشكى لشركة المملكة وما تبعها من تحقيقات انتهت في 2011 بتنازل الوليد بن طلال للحكومة المصرية عن 75% من الأراضي التي حصل عليها، وتوقيع عقد جديد يمنح شركته 25 ألف فدان فقط، ثم تصفية المشروع بالكامل وبيع أسهم الشركة في 2017 بقيمة 1.25 مليار جنيه ما يعادل نحو 80 مليون دولار في ذلك الوقت، لخصت تلك المراحل كيف كان نظام الرئيس الراحل حسني مبارك يدير ويحكم البلاد.
كانت دولة مبارك تُدار "من فوق" وتُتخذ فيها القرارت "من فوق"، ولا عزاء لكل مؤسسات الدولة الدستورية التي من المفترض أنها تمارس الرقابة على عقود واتفاقيات الحكومة، إذ إنّ سلطة مبارك لم تكن تقيم وزنًا لأي مؤسسة أو جهة كفل لها الدستور مراقبة أعمال السلطة التنفيذية.
على مدار 3 عقود جمع الرئيس المخلوع كل صلاحيات وسلطات الدولة في شخصه، حتى ضاقت الصدور فخرج عليه الشعب في مطلع 2011، على ما جاء في تقرير لجنة تقصي الحقائق حول أحداث ثورة 25 يناير وأسبابها.
تقرير اللجنة التي شكّلها المجلس العسكري بعد أسابيع من إزاحة مبارك، أشار إلى أنّ "الفساد السياسي وانتشار الرشوة والمحسوبية وغياب الشفافية والنزاهة والتنافسية والتضليل الإعلامي، وإهمال الحكومة للرأي العام"، كان من أهم الأسباب التي دفعت الشباب للدعوة إلى الخروج للتعبير عن رغبتهم في تغيير نظام "الحزب الواحد والرجل الواحد والصوت الواحد".
وكما غابت الشفافية عن صفقة "توشكى" وشركة "المملكة" قبل 27 عامًا، لا يزال الغموض يكتنف صفقة "رأس الحكمة" التي أعلنت الحكومة أنها "شراكة استثمارية مع دولة الإمارات" ولا يوجد أي بند في عقدها "يمس السيادة المصرية أو يخالف القوانين المصرية"، بحسب ما قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، الذي دعا إلى عدم الالتفات للمشككين "من أهل الشر الذين لا يريدون خيرًا لمصر ولا لشعبها".
منذ توقيع عقد تطوير مشروع "رأس الحكمة"، والذي قُدّر حجم الاستثمارات به بنحو 150 مليار دولار خلال مراحل تطويره، تتضمن ضخّ نحو 35 مليار دولار استثمارًا أجنبيًا مباشرًا للخزانة المصرية خلال شهرين، لم يُكشف النقاب عما إذ كانت أرض المدينة الجديدة التي ستقام على مساحة 170.8 مليون متر مربع بساحل مصر الشمالي، قد تم بيعها للجانب الإمارتي أم خُصّصت بنظام حق الاستغلال أو الانتفاع.
لم يطالب أحد من نواب البرلمان بطرح عقد "رأس الحكمة" للمناقشة تحت قبة المجلس إعمالًا لمبدأ المكاشفة والشفافية
ورغم أنّ رئيس الحكومة أشار في معرض حديثه إلى أنّ مشروع رأس الحكمة "شراكة وليس بيع أصول" إلا أنّ نائب وزير الإسكان وليد عباس قال في تصريحات تلفزيونية إنّ مصر حصلت على" ثمن الأرض 35 مليار دولار، منها 11 مليارًا ودائع إماراتية لدى البنك المركزي، و10 مليارات دفعة أولى تسلّمتها مصر بالفعل، و14 مليارًا خلال شهرين"، فيما اكتفت الشركة القابضة الإمارتية في بيانها بتعبير "استحواذ" على حقوق تطوير منطقة "رأس الحكمة".
اللافت؛ أنه قبل توقيع العقد مع "القابضة" الإماراتية بأيام، تم التصديق على تعديل القانون رقم 143 لسنة 1981 بشأن الأراضي الصحراوية والذي يمنح رئيس الجمهورية الحق في استتثناء المستثمرين العرب من منع التملك بقرار من الرئيس فقط.
حتى كتابة هذه السطور، لم يُطالع أحد بنود عقد تلك الصفقة، كما لم يدع أحد من نواب البرلمان الذي تبارى أعضاؤه في الإشادة بالمشروع ليطالب بطرح العقد للمناقشة تحت قبة المجلس الموقر، إعمالًا لمبدأ المكاشفة والشفافية، وحتى يُطلع الرأي العام المصري، المالك الأول وصاحب السيادة والولاية على الدولة وأراضيها، على حقيقة وتفاصيل صفقة تخص حقوق الأجيال القادمة.
(خاص "عروبة 22")