مطالعة تفاصيل ما تحتويه جردة الحروب الإسرائيلية ضد العرب والفلسطينيين تفرض مراجعة دقيقة لكل معالم الطريق الذي أوصل العرب إلى هنا.
تلك الجردة المأساوية تفرض علينا التوقف مليًا لإعادة بناء تصوّر للقصة بكل دراميتها وعنفها وخيباتها وانكساراتها من الهبة العربية في 1948 دفاعًا عن فلسطين وشعبها، إلى الهرولة الجماعية للتعاون المشترك مع الكيان الغاصب.
أسوأ ما يتبدى في المشهد اليوم أنّ إسرائيل تتعامل وكأنها حصلت على الثمرة قبل أن تصعد إلى النخلة. وهي ماضية في حربها التي أرادتها "مفصلية"، ولا يغُرَّنَّها الترغيب في ثمرة العلاقات الرسمية مع من تبقى خارج مصيدة التطبيع المباشر معها.
وهي تمعن في حربها على غزّة تريد أن ترسم بالقتل والتمدير والتهجير والإبادة والتجويع ملامح "اليوم التالي" في القطاع المحاصر، ليكون لها الصدارة في المنطقة كلها، وهي مقبلة عليها خوفًا وطمعًا.
مقبلون على خيارات مؤلمة والجميع سيكونون أمام مواجهة حتمية مع الكثير من التحديات
الأوضاع العربية مغرية لكي تمضي إسرائيل، ومن ورائها الغرب، في طريق التصفية الشاملة للقضية الفلسطينية دون أن يطرف لهم جفن أو يتحرك لهم ضمير.
الموقف العربي خسر جولة غزة الأخيرة بأهداف ذاتية.. إسرائيل أول من يعرف حقيقة المواقف العربية، وهي تبدو مطمئنة، كأنّ في بطنها 22 "بطيخة صيفي"، لم تعد تزعجها تصريحات تطلق للاستهلاك المحلي، لأنها مطلعة على جوهر المواقف التي تميل، وربما تُحبذ، وبعضها يُحرض في السر، على أن تتمم إسرائيل مهمتها الأساسية في القضاء المبرم على المقاومة واجتثاثها من التربة الفلسطينية.
إسرائيل تعرف حق المعرفة أنها غير قادرة على تحقيق أهدافها المعلنة من دون المشاركة والتواطؤ والتخاذل الذي تحظى به في معركتها الحالية كما لم يحدث من قبل.
لا أقول نحذف تدخل التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من معادلة الحرب على غزّة، فهذا خارج منطق الأمور، وطبائع العلاقات بين الكيان الصهيوني وداعميه الدوليين. ولكني أذهب بعيدًا إلى القول بأننا لو حذفنا التخاذل -حتى لا نقول التواطؤ العربي- من معادلة حرب غزّة لاستطاعت المقاومة أن تصمد وتمنع إسرائيل من تحقيق أي "نوع من النصر".
رغم كل الخسائر الفادحة في الأرواح والتدمير الشامل للقطاع صمد الشعب الفلسطيني، ورغم هذا التخاذل ما تزال مقاومته تقاتل، ولم تستطع آلة الحرب الإسرائيلية الشرسة أن تدفع بها إلى حظائر الاستسلام.
منذ نشأتها وحتى اليوم لم تكن إسرائيل في وارد السلام مع العرب، لا بالتفاوض، ولا بغيره، ولم تكن مستعدة في أي وقت لدفع أي ثمن لهذا السلام الذي يطلبه العرب، ظلت أعينها مصوبة دائمًا باتجاه التوسع وفرض الأمر الواقع على الجميع.
إسرائيل مجتمع حرب، ولم تقدّم نفسها في أي وقت في صورة مجتمع سلام. وهي بالتكوين وبالوظيفة غير مهيّأة لأن تدفع ثمنًا لسلامٍ يُقيّدها في حدود، ويَحُدها في قيود. وهي ليست مستعدة لمواجهة متطلبات سلام مع العرب، يستدعي إلى الطاولة تلك المؤجلات التي طال إزاحتها إلى خلفية ملاعب التفاوض الذي بلا نهاية.
العقلية الإسرائيلية تعتبر هذه المؤجلات المزمنة خارج دائرة أي تفاوض، خاصة ما يتعلق بوضع القدس، ومصير المستوطنات، وعودة اللاجئين، ورسم حدودها النهائية، كلها من المحرمات لدى كل الإسرائيليين يسارهم قبل يمينهم، حمائمهم قبل صقورهم، العلمانيين منهم قبل المتديّنين.
صعود وتوسّع تيار وأحزاب اليمين الديني في إسرائيل يؤكد أنّ المجتمع في الدولة العبرية لا يستطيع، رغم كل مظاهر الحداثة، إلا أن يعيش بالأسطورة التوراتية.
مخطئ من يستبعد أننا مقبلون على خيارات مؤلمة، وأنّ الجميع سيكونون أمام مواجهة حتمية مع الكثير من التحديات المفروضة على المنطقة والعالم.
سيناريوهات "اليوم التالي" تهدف إلى إعادة رسم خرائط المنطقة العربية وما حولها
حقائق ما جرى على الأرض طوال الشهور القليلة الماضية، مضافًا إليها حقائق ومجريات الهرولة إلى أوهام السلام مع إسرائيل تفرضان على العرب، اليوم قبل الغد، ضرورة إعادة الفحص واستخلاص الدرس.
المصائر المعلّقة على نتائج ما يدور اليوم في غزّة وحولها، لا تهدد مصير المقاومة وحدها.
سيناريوهات "اليوم التالي" تقفز إلى ما وراء حدود غزّة وفلسطين كلّها وتهدف إلى إعادة رسم خرائط المنطقة العربية وما حولها بما يتوافق مع "تثبيت" أمريكا في موقع قيادة العالم، إلى جانب "ترسيخ" إسرائيل في موقع اقتياد محيطها المباشر.
على مدار العقود القليلة الماضية تم إضعاف العرب وتشتيتهم حتى تخلوا عن خطاب الحرب وأقبلوا على خطاب السلام، بينما تُعرِض إسرائيل عن كل خيارات السلام المعروضة عليها حتى من جانب رعاتها الدوليين.
إسرائيل ليست بوارد تقديم أي تنازلات، والموقف العربي غير مهيئ لاقتناص أي تنازلات منها. إذا حققت إسرائيل ما تهدف إليه في غزّة سيجد العرب أنفسهم مطالبين بالتأقلم مع أوضاع جديدة ستُفرض عليهم.
مستـقـبل قـطـاع غزّة يرسم المستقبل في المنطقة بأسرها.
لذلك، لا يجب، ولا يجوز أصلًا، أن تحصل إسرائيل بألاعيب السياسة على نصيب المنتصر في معركة لم تكسبها في ميادين القتال.
الموقف العربي الموحّد على رؤية شاملة وتصوّر واضح لما بعد غزّة هو وحده الذي يحمي كل الأطراف العربية
حتى لا تكون مصائر عربية في يد نـتـنيـاهـو، أو من يخلفه، فليس من بديل غير أن يرفع العرب كارت "الفيتو" في مواجهة إجابة إسرائيل على سؤال "اليوم التالي".
إسرائيل هي، بالطبع، آخر طرف يحق له تحديد مستقبل غزّة، وهي، باليقين، ليست الجانب الذي يحق له تقرير مصير الفلسطينيين.
فكرة إسرائيل الدولة الحامية سقطت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الموقف العربي الموحّد على رؤية شاملة وتصوّر واضح لما بعد غزّة هو وحده الذي يحمي كل الأطراف العربية، ويضع المنطقة كلها على طريق السلام الحقيقي، ويخرجها من حالة الاستسلام المهين الذي يراد فرضه عليها.
ذلك هو درس غزّة البليغ.
في كل الأحوال لا يمكن قبول أن يبقى سؤال المستقبل مطروحًا على كل الموائد من دون أن يبادر العرب إلى تقديم إجابه تحقق مصالحهم، وتحمي أمنهم القومي الذي تتزعزع قوائمه على وقع النتائج التي ستفضي إليها مخططات "اليوم التالي" المصنّعة في المطابخ الأمريكية.
(خاص "عروبة 22")