وجهات نظر

المأزق الإسرائيلي في رفح

في ١٩ أكتوبر/تشرين الأول الماضي - أي بعد ١٢ يومًا فقط من انطلاق "طوفان الأقصى" - كتبتُ مقالة في صحيفة "الأهرام" المصرية بعنوان "المأزق الإسرائيلي"، وعلق أحدهم يومها متسائلًا عن الطرف الذي يُفترض أن يكون في مأزق، وهل هو إسرائيل أم فلسطين والعرب، والواقع أنّ هذا التساؤل ينبع من طريقة التفكير، فمن ينظر للأمر في لحظته الحالية يمكن أن يخلص بسهولة إلى أنّ الطرف الفلسطيني العربي يواجه كارثة، وليس مجرد مأزق، أما من يضع الأمر في سياقه التاريخي فلا بد أن ينظر لما جرى ويجري في غزّة على أنه جزء من عملية تاريخية لتطوّر حالة استعمارية لا بد وأن يؤول مصيرها إلى التصفية كغيرها من الحالات الاستعمارية عبر التاريخ.

المأزق الإسرائيلي في رفح

وقد يتعيّن على المرء لكي يوضح وجهة النظر هذه لا أن يُذكّر بمعارك التحرر الوطني التاريخية في الجزائر وجنوب اليمن وڤيتنام وغيرها فحسب، وإنما أن يُذَكّر بتطور حركة التحرر الوطني الفلسطينية منذ بداية المشروع الصهيوني عمومًا، وبعد عدوان ١٩٦٧ خصوصًا، وفي قطاع غزّة بصفة أخص، فهو الجزء الوحيد من فلسطين الذي أجبر المحتل الإسرائيلي على الانسحاب منه، بل وتفكيك المستوطنات القريبة من القطاع خشية أن تطولها يد المقاومة.

ومنذ تحقق هذا الانسحاب وحتى الآن اجتاحت القوات الإسرائيلية القطاع ما لا يقل عن ٦ مرات بهدف "اجتثاث" المقاومة تمامًا كما تدعي الآن، ولم يتحقق لها هذا الهدف بدليل ما يجري الآن رغم ما فعلته كعادتها من قتل وتدمير، بل إنّ الجولة الحالية التي تدور رحاها منذ قرابة نصف العام تعكس أنّ منحنى قوة المقاومة في صعود وليس العكس، ولا تدرك العقلية الاستعمارية عادة هذا المعنى، ولذلك فإنّ سلوكها يتكرر على نحو غبي حتى يصل تآكل الظاهرة الاستعمارية إلى منتهاه.

العقلية الاستعمارية تعيد إنتاج أساليب جُربَت منذ عقود وفشلت فشلًا ذريعًا

وانعكس هذا الغباء بوضوح في مواجهة إسرائيل لـ"طوفان الأقصى"، فقد اعتبرته بطبيعة الحال عملية إرهابية، وردّت عليه بداهة بالقوة المسلحة المفرطة التي أفضت حتى الآن إلى استشهاد أكثر من ٣٠ ألفًا من أهل غزّة، وإصابة أكثر من ٧٠ ألفًا، وقد اجتاحت القوات الإسرائيلية غزّة من الشمال للجنوب للقضاء على المقاومة، وسواء كان هذا التسلسل مقصودًا منذ البداية لتجزئة المواجهة مع مقاتليها، أو لأنّ الاستخبارات الإسرائيلية كانت تعتقد أنّ قيادة المقاومة وقوتها الضاربة متركزة في الشمال والوسط، فإنّ الأمر انتهى بالقوات الإسرائيلية إلى خوض معارك ضارية مع فصائل المقاومة في الجنوب وبالذات في مدينة خان يونس، وحشر قرابة مليون ونصف المليون من أهل غزّة في مدينة رفح التي ادعى نتنياهو أنها تضم ٤ كتائب للمقاومة، وبالقضاء عليها تكون إسرائيل قد حققت "النصر المطلق" الذي وعد به.

ويكاد الفضول أن يقتلني لكي أعرف ما إذا كان نتنياهو الذي تخرّج من واحد من أشهر المعاهد العلمية في العالم (معهد ماساسوستش للتكنولوجيا) يعتقد حقًا بصحة ما يقول بسبب العقلية الاستعمارية التي تسبب العمى الإدراكي لأصحابها فلا يفهمون شيئًا من دروس التاريخ، ويتصوّرون أنهم سيكونون الاستثناء من القانون العلمي للاستعمار الذي يقضي بحتمية تصفيته مهما طال الزمن وعظمت التضحيات، أم أنه يدرك جيدًا خطأ ما يردده ليل نهار، لكنه يتفوه به لاعتبارات سياسية كي يضمن استمراره في الحكم؟.

فإذا كانت عملية الإنتقام التي ردت بها إسرائيل على "طوفان الأقصى" قد أوصلتها إلى ما هي فيه الآن من انقسامات سياسية فادحة على كل المستويات، وأزمة اقتصادية طاحنة بسبب تكاليف الحرب وخسائرها واستدعاء قوى الاحتياط ذات الدور الإنتاجي وانهيار السياحة، وفقدان حقيقي لمساندة قطاعات مهمة من الرأي العام العالمي، وبصفة خاصة في البلدان المعروفة تقليديًا بموالاتها لإسرائيل - إذا كان هذا كله قد حدث بسبب العمليات التي سبقت عملية رفح التي تهدد بها القيادة الإسرائيلية ليل نهار، فما الذي يمكن أن ينجم عن اجتياح رفح؟.

يجب أن نتذكّر أنّ الضغوط قد تصاعدت على إسرائيل من كل صوب للضغط من أجل عدم المضي قُدُمًا في الاجتياح لخسائره البشرية الهائلة، وتميّزت الإدارة الإمريكية بأنها اشترطت فقط إخلاء رفح من سكانها قبل الاجتياح، غير أنّ إسرائيل لم تعوّدنا على الاستجابة للضغوط الإنسانية، لكن تأجيل العملية في تقديري يرجع لحسابات العاقلين من القيادات العسكرية الإسرائيلية التي تعرف الثمن الفادح عسكريًا وسياسيًا في هكذا معركة، خاصة وأنّ الكثيرين لا ينتبهون إلى أنّ المقاومة عادت إلى الأماكن التي ادعت إسرائيل أنها خلصتها من المقاومة، وأثبتت قدرتها على مواصلة إلحاق الخسائر بالقوات الإسرائيلية، ناهيك بأنّ الدعاية الإسرائيلية الكاذبة التي تدعي بأنّ "حماس" تسرق المساعدات المتجهة للشمال، لا تدرك أنها بهذا الادعاء تؤكد أنّ "حماس" ما زالت رغم كل القتل والتدمير حاضرة بقوة في المشهد السياسي بغزّة، ويدعم هذا ما تواتر من أنباء عن فشل المساعي الإسرائيلية وغير الإسرائيلية أيضًا في إقناع بعض عشائر غزّة للاضطلاع بدور في إدارتها تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، وإنّ مجرد طرح هذه الفكرة والسعي لتطبيقها يعكس إفلاس العقلية الاستعمارية التي تعيد إنتاج أساليب جُربَت منذ عقود، وفشلت فشلًا ذريعًا، ويُضاف لهذا كله استمرار تصاعد عمليات المقاومة في الضفة واحتمالات تفجرها على نطاق واسع وتطورها لانتفاضة شعبية شاملة، ناهيك باستمرار العمليات المساندة على نحو غير مباشر لمقاتلي غزّة كما في الجبهة اللبنانية وجبهة البحر الأحمر والعراق.

ستدرك إسرائيل أنّ "طوفان الأقصى" مثّل مرحلة مهمة من مراحل وصول حركة التحرر الوطني الفلسطينية إلى غاياتها

ورغم كل ما سبق، فإن القيادة الإسرائيلية تصر على أنّ عملية اجتياح رفح بريًا واقعة لا محالة بعد إيجاد مخرج آمن للنازحين إليها كما يدّعون، علمًا بأنّ إسرائيل لم تراع هذا الاعتبار عندما قتلت ما يزيد عن ٣٠ ألف فلسطيني وأصابت أكثر من ٧٠ ألفًا، وقد تصاعدت هذه النغمة الإسرائيلية بعد إخفاق مفاوضات الهدنة حتى كتابة هذه السطور، وسوف أفترض أنّ أعين إسرائيل ما تزال غير قادرة على رؤية الحقيقة، وأنها أقدمت بالفعل على اجتياح رفح بريًا، وهنا أُبشّرها بأنها كما سوف تريق أنهارًا جديدة من دماء الفلسطينيين سوف تتحمّل أولًا خسائر فادحة، وأنها ثانيًا لن تضمن النصر في هذه المعركة، خاصة وأنّ المقاومة عادت كما سبقت الإشارة لمناطق كانت إسرائيل تتباهى بأنها صفت المقاومة فيها، وأنها ثالثًا سوف تواجه مزيدًا من الانقسامات السياسية والخسائر الاقتصادية وفقدان التأييد الدولي رسميًا وشعبيًا، وأنها رابعًا وأخيرًا سوف تٰفاجأ إن هي حققت النصر لا قدر الله في هذه المعركة أنّ المقاومة بشتى صورها سوف تعود إلى غزّة وكل فلسطين ولو بعد حين، وفي كل الأحوال ستدرك إسرائيل ربما بعد فوات الأوان أنّ "طوفان الأقصى" مثّل مرحلة مهمة من مراحل وصول حركة التحرر الوطني الفلسطينية إلى غاياتها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن