وأمام صمود المقاومة ميدانيًا من جهة وتمسك مواطني القطاع بأرضهم رغم النهج الإسرائيلي بتحويل غزّة لبقعة غير صالحة للحياة، بدأت حكومة الاحتلال في البحث عن بدائل تخدم أهدافها، وتشق بها الصف الفلسطيني لضرب إسفين بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، من خلال محاولات استمالة بعض العائلات والعشائر ممن كانت لديهم خلافات مع حركة "حماس" قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لتشكيل إدارات مدنية تتولى تنظيم عملية المساعدات وتوزيعها وتكون بديلًا لحركة "حماس" في القطاع.
مؤخرًا أجرى ممثلون لجيش الاحتلال اتصالات مع عدد من زعماء ومشايخ القبائل والعشائر الكبرى في قطاع غزّة لاستطلاع آرائهم بشأن التعاون والتنسيق مع جيش الاحتلال في القطاع، قبل أن يتلقوا ردودًا سلبية من تلك العائلات التي رفضت الخطوة، مؤكدين على أنهم لن يكونوا خنجرًا في خاصرة المقاومة وأبناء شعبهم.
مؤتمر الحسنة
اللعب بورقة العشائر والقبائل والعائلات ليس جديدًا على كتالوج الاحتلال الإسرائيلي، فطالما لجأ لها على أمل تحقيق ما فشل فيه عسكريًا.
في الحادي والثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1968، عقب الاحتلال الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء حاول الإسرائيليون تحريض أهالي سيناء على الاستقلال بها وإعلانها دولة مستقلة للقضاء على تبعيتها لمصر وإثبات عدم أحقيتها في استرداد تلك الأرض المحتلة مرة أخرى، وقاموا بتنظيم مؤتمر حاشد بمدينة الحسنة بمحافظة شمال سيناء، إذ نفذ مشايخ القبائل خطة لخداع جيش الاحتلال وقتها بعدما أظهر قبولًا بالفكرة الإسرائيلية، وبالفعل قامت تل أبيب بعدها بحشد مراسلي وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية إلى مدينة الحسنة بوسط سيناء انتظارًا للحظة الموعودة.
وتم تفويض الشيخ سالم الهرش من قبيلة البياضية للحديث عن القبائل أمام الإسرائيليين بالمؤتمر، فقال:" أترضون بما أقول؟" فأجابوه: "نعم"، وبينما موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها ينتظر لحظة التدويل حتى فاجأ الهرش الحضور بقوله إنّ "سيناء مصرية وقطعة من مصر ولا نرضى بديلًا عن مصر وما أنتم إلا احتلال ونرفض التدويل وأمر سيناء في يد مصر، فسيناء مصرية مائة في المائة ولا نملك فيها شبرًا واحدًا يمكننا التفريط فيه".
روابط قرى الضفة
لم تستبعد إسرائيل ورقة العشائر رغم الصفعة التي تلقتها على أيدي قبائل سيناء في الحسنة، وفي عام 1978، عملت على تكوين تشكيلات إدارية في الضفة الغربية تحت مسمى روابط القرى، حاولت من خلالها إيجاد قيادة فلسطينية بديلة عن منظمة التحرير.
كانت الأهداف المعلنة لهذه الروابط القروية هو حل المنازعات والخلافات السكانية ومساعدة المزارعين في تحسين أوضاعهم الاقتصادية، إلا أنّ الأهداف الحقيقية لتلك الروابط كان دعم سلطات الاحتلال لها بالمال والسلاح، في محاولة لخلق قيادة فلسطينية بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية تكون مستعدة لتأييد "كامب ديفيد" وقادرة على المشاركة في مفاوضات الحكم الذاتي وتنفيذ مخطط إسرائيل للإدارة المدنية وتولي المناصب أو المهام التي توكل إليها في هذا السياق.
وإزاء التحرك الإسرائيلي عبر روابط القرى والإدارة المدنية مارست الجماهير الفلسطينية دورها الوطني في التصدي لهذه المشاريع بمختلف الوسائل المتاحة لها، ففي 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1981 أصدر رؤساء البلديات وممثلو النقابات المهنية والهيئات الاجتماعية والمجالس الطلابية في الضفة الغربية بيانًا قالوا فيه إنّ "روابط القرى تهدف لإيجاد بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية، وأنّ الحل الوحيد يتمثّل في انسحاب القوات الإسرائيلية من كل الأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية".
قوة عشائرية مسلّحة في رفح
منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، أعلنت الحكومة الإسرائيلية أنها لن تسمح للسلطة الفلسطينية أو حركة "حماس" بإدارة القطاع بعد انتهاء الحرب.
وبمحاذاة ذلك كشفت قناة "كان" العبرية في يناير/كانون الثاني الماضي عن خطة لجيش الاحتلال الإسرائيلي تتضمن تقسيم غزّة إلى مناطق تحكمها العشائر، وتتولى مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية فيها.
وقالت القناة إنه "سيتم تقسيم القطاع إلى مناطق ونواح، حيث ستسيطر كل عشيرة على ناحية، وستكون مسؤولة عن توزيع المساعدات الإنسانية"، مشيرةً إلى أنّ هذه "العشائر المعروفة لدى الجيش وجهاز الأمن العام (شاباك) ستقوم بإدارة الحياة المدنية في غزّة لفترة".
لم تنتظر العشائر والعائلات الفلسطينية كثيرًا لمنع إثارة البلبلة لتعلن موقفًا واضحًا لا لبس فيه برفض أي تنسيق مع الاحتلال أو تجاوز سواء للحكومة أو الأجهزة الأمنية في قطاع غزّة.
الرهان الخاسر
في هذا الصدد يؤكد المفوض العام للهيئة العليا لعشائر وعائلات غزّة عاكف المصري، على أنّ ترتيب البيت الفلسطيني وإدارة قطاع غزّة سواء في الوقت الراهن أو في اليوم التالي لانتهاء العدوان هو أمر يخص الفلسطينيين وحدهم، وهم من يحددوه دون تدخل من جانب أي طرف.
وبينما يرى المصري أنّ موقف العشائر موحّد على رفض التواصل مع الاحتلال ورفض أن يكونوا بديلًا لأي جهة سياسية، يدعو في حديث لـ"عروبة22" حركتي "حماس" و"فتح" إلى إنهاء الانقسام والتوحّد تحت مظلة واحدة، محملًا إياهما مسؤولية الانقسام المستمر منذ ستة عشر عامًا.
ويشدد المصري على أنّ الرهان الإسرائيلي على اللعب بورقة العشائر سيكون خاسرًا، كون أبناء الفصائل هم بالأساس أبناء العائلات والعشائر، لافتًا إلى أنهم لا يتبنون سوى دور إصلاح ذات البين بين الفصائل من أجل إنهاء الانقسام.
وضرب المصري مثالًا بموقف عائلات دغمش التي روّجت تقارير عبرية لتجاوبها مع الدعوات الإسرائيلية، بقوله إنّ العائلة أغلقت باب اللغط بإصدار بيان صريح أكدت خلاله على أنها جزء من النسيج الوطني الفلسطيني وترفض إجراء أي اتصالات مع الاحتلال، لافتًا إلى أنّ مجلس العائلة بالكامل استشهد في قصف إسرائيلي في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
الأمر نفسه أكد عليه، رئيس الهيئة العليا لعشائر وعائلات غزة، حسن المغني، الذي أكد لـ"عروبة 22" أنّ من سيتعاون مع الاحتلال أو ينسق معه من أبناء العشائر، هو والعدو سواء، مشددًا في الوقت نفسه على أنّ وجهاء العشائر الذين تواصل معهم الاحتلال أكدوا رفضهم وضع أيديهم في أيدي المحتل".
في المقابل كشفت القناة الـ14 الإسرائيلية الأسبوع الماضي، أنّ مدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج بدأ العمل على بناء قوة مسلحة جنوب قطاع غزّة، لافتة إلى أنّ تلك القوة تتكوّن من عائلات لا تؤيد حركة "حماس" لتوزيع المساعدات من جنوب القطاع إلى شماله.
الشعب والتاريخ لن يرحما..
وقبل ذلك، قالت هيئة البث الإسرائيلية (كان) إنّ رئيس مجلس الأمن تساحي هنغبي التقى مؤخرًا فرج بموافقة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وأشارت إلى أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت اقترح تولي رئيس مخابرات السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزّة مؤقتًا بعد انتهاء الحرب. وقالت الهيئة إنّ إسرائيل تدرس استخدام رئيس المخابرات الفلسطينية لبناء بديل لحركة "حماس" في "اليوم التالي" للحرب.
عدم رد رئيس مخابرات السلطة على تسريبات الإعلام العبري، أثار الكثير من اللغط، لكنّ مسؤولًا بارزًا في حركة "فتح" تحدث لـ"عروبة 22" شريطة عدم ذكر اسمه، اعتبر أنّ أيّ تجاوب مع مثل تلك الأفكار، لا يمثل القرار الرسمي لـ"فتح".
وقال القيادي الفتحاوي: "رغم ما بيننا وبين حركة حماس من تباينات واسعة إلا أنّ هذا لا يعني أن نتحالف مع الاحتلال ضد أبناء شعبنا"، موجّهًا رسالة إلى قيادات السلطة قائلًا: "الشعب والتاريخ لن يرحما من يأتي على ظهر دبابة إسرائيلية".
حتى هذه اللحظة، من الصعب على أي طرف في قطاع غزّة سواء كان عشائريًا أو حركيًا، أن يلعب دورًا ترسمه أجهزة الاحتلال، فالجميع يعلم تمامًا أنّ أيّ تعاون مع العدو والمعركة لا تزال دائرة والدماء لا تزال تسال، سيكون بمثابة انتحار سياسي.
(خاص "عروبة 22")