وخلال حفل إفطار رمضاني التقى فيه عدد من النخب التنفيذية والسياسية وضمّ رموزًا للمعارضة، أسهب السيسي في شرح تبعات ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وتكلفة أحداثها التي "خسرت الدولة 37 مليار دولار و80 مليار جنيه"، مشيرًا إلى أنّ آثار تلك الأحداث لا تزال قائمة، كما تناول أيضًا تكلفة مواجهة البلاد للإرهاب عقب الإطاحة بحكم الإخوان "كلفت الجيش المصري نحو 84 مليار جنيه حتى عام 2017".
وقبل تطرقه إلى ملف "الإصلاح السياسي"، بشّر الرئيس المصري بقرب حسم المعركة مع الإرهاب، "لما نخلص إزالة العبوات الناسفة والمتفجرات نقدر نعلن إنه تم تطهير أو انتهاء الإرهاب في سيناء".
أعاد الرئيس على مسامع المصريين تعهدات بأنه عازم على البدء باتخاذ إجراءات التحوّل الديمقراطي التي تأجلت وتأخرت
وبما أنّ المواجهة مع الإرهاب انتهت أو أوشكت على الانتهاء، فوجب على الدولة إعادة النظر في أجندة أولوياتها، وعليه دعا السيسي كافة التيارات السياسية "دون استثناء أو تمييز" لإدارة حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني، على قاعدة "الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية".
وفي ختام ذلك الخطاب الذي أعقبه الإفراج عن عدد من المحبوسين على ذمة قضايا رأي، ووضع هياكل ومحاور الحوار المُجمد بين السلطة والمعارضة، شدد السيسي على أنّ "مصر الجديدة التي تتسع لكل أبنائها هي دولة مدنية ديمقراطية حديثة".
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يتطرق فيها الرئيس المصري إلى الحديث عن ضرورة الشروع في وضع قواعد الدولة الديمقراطية، فقبل دعوة الحوار الوطني بشهور، تحديدًا في سبتمبر/أيلول 2021، وخلال إطلاق وثيقة "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، تحدث السيسي عن عزم مؤسسات السلطة على ترسيخ مبادئ الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، والتي تستند على "احترام حقوق الإنسان والحريات العامة وقواعد الديمقراطية".
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وفي الكلمة التي أعلن فيها عن عزمه الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، للفوز بولاية ثالثة، دعا السيسي المصريين إلى جعل تلك الانتخابات "بداية حقيقية لحياة سياسية مفعمة بالحيوية والتعددية"، ما يسهم في "استكمال مسيرة بناء الدولة على أُسُس الحداثة والديمقراطية".
وهو ما تكرر في كلمته الأخيرة التي أعقبت أدائه اليمين الدستورية لفترة ولاية ثالثة وأخيرة، إذ جدد الرئيس العهد لاستكمال "مسيرة بناء الوطن وتحقيق تطلعات الأمّة المصرية العظيمة في بناء دولة حديثة ديمقراطية متقدّمة".
هكذا، وخلال أقل من 3 سنوات، أعاد الرئيس على مسامع المصريين تعهدات بأنه عازم على البدء باتخاذ إجراءات التحوّل الديمقراطي التي تأجلت وتأخرت، ففُتح الباب أمام الانفراد بالسلطة وغابت أو غُيّبت أُسس الشفافية والرقابة والمحاسبة والمساءلة، فتراكمت السياسات الخاطئة التي أوقعت مصر في متوالية من الأزمات الاقتصادية التي لا يزال المواطن يحصد نتائجها. ورغم تلك الوعود، لا تزال تقف إجراءات الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي "محلّك سر"
حسم السيسي انتخابات الرئاسة الأخيرة التي أهّلته إلى الاستمرار في الحكم حتى عام 2030، بنتيجة تقترب من الـ90%، متفوقًا على منافسيه الثلاثة الذين راجت أحاديث عن استدعائهم لخوض المعركة، فيما أبعد عنها النائب والصحفي الشاب أحمد الطنطاوي الذي كان له وزن انتخابي حقيقي.
وحتى التوصيات والمخرجات الخاصة بـ"المحور السياسي" في الحوار الوطني، لم ترَ النور بعد، فلا تعديل حقيقي في التشريعات التي تساعد على توسيع المجال العام وعلى رأسها قوانين الانتخاب، ولا تغيير للممارسات التي تكبل الحريات العامة والحريات الصحفية.
لو كانت السلطة جادة في وضع قواعد الدولة المدنية الديمقراطية التي بشّر بها الرئيس مرارًا وتكرارًا، وإذا كان السيسي يسعى إلى أن تكون ولايته الثالثة والأخيرة هي "حسن ختام" سنوات حكمه التي بدأت بعد الثورة على حكم "الإخوان"، فعليه ومن الآن البدء في خلق مساحات تسمح بالحركة والتنظيم والتحام الأحزاب الحقيقية بالجمهور والاستماع إليه وطرح أفكار وبدائل مختلفة عليه، وتعديل قوانين انتخابات مجلسي النواب والشيوخ وتنظيم الصحافة والإعلام، بما يضع حدًا لاحتكار السلطة وأحزابها لكل المواقع التنفيذية والإعلامية والنيابية، فلا سبيل للدولة المدنية إلا بالمنافسة الحزبية التي تساعد على صناعة تنوع حقيقي.
المضي في تنفيذ مشروع الإصلاح السياسي هو البديل الآمن لأبواب أخرى قد تعرّض مستقبل البلاد لهزات وخسائر
قبل بلوغ عتبة 2030، ينتظر الشعب من الرئيس الذي وعد بتدعيم وتشييد أُسس الجمهورية الجديدة أن يعلن وبشكل قاطع أنه لا مساس وتحت أي ظرف بنصوص الدستور، وأنّ المادة (140) الخاصة بتقييد فترات الرئاسة مصونة وغير قابلة للتعديل مجددًا، حتى لو خرج ما يطالب بضرورة تعديلها للحفاظ على الاستقرار والمكتسبات والإنجازات التي تحققت كما جرى في 2019.
الشروع في وضع قواعد الدولة المدنية الديمقراطية، والمضي في تنفيذ مشروع الإصلاح السياسي، هو الإنجاز الحقيقي الذي يفتح أبواب التاريخ، وهو البديل الآمن لأبواب أخرى قد تعرّض مستقبل البلاد لهزات وخسائر، يحذر منها السيسي في كل أحاديثه.
(خاص "عروبة 22")