صحافة

إسرائيل.. تناقضات مجتمع مأزوم

عاصم عبد الخالق

المشاركة
إسرائيل.. تناقضات مجتمع مأزوم

لمحبي علم المنطق نهدي هذا الخطأ في الاستدلال: رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو يرفض وقف إطلاق النار.. الإسرائيليون ساخطون على نتنياهو.. إذن الإسرائيليون يريدون وقف إطلاق النار. بتعيير أهل المنطق هذا نوع من المغالطات المنطقية الشائعة، بمعنى القفز إلى استنتاجات غير صحيحة استنادا إلى معطيات صحيحة.

في الحالة الإسرائيلية الرأي العام الداخلي ساخط بالفعل على نتنياهو ويعتقد جازما أنه يتعمد إطالة أمد الحرب لتحقيق مصالح شخصية أهمها إنقاذ منصبه وتجنب المحاسبة وتحمل مسؤولية الهزيمة المذلة إذا توقفت الحرب فضلا عن إعادة فتح ملف قضايا الفساد المتهم فيها ومن ثم الزج به في السجن. لكن الغضب على نتنياهو ليس بسبب خوض الحرب فلا خلاف بين الإسرائيليين على أهمية استمرارها، لكنهم ينتقدون مماطلته في حل مشكلة الأسرى لدى حماس وتعنته في قبول صفقة معقولة لإطلاق سراحهم. ينتقدونه أيضا لعدم طرح رؤية واضحة وواقعية لترتيبات ما بعد الحرب، ولأنه يخاطر بفرض عزلة على إسرائيل وإحداث صدع حقيقي في العلاقات مع أمريكا.

لكن كل هذا لا يعني أن الرأي العام الإسرائيلي يرفض الحرب. الأحزاب بكل أطيافها وتوجهاتها تؤيدها. لا احد يذرف الدموع على الضحايا الفلسطينيين. ما يعنيهم في الأساس هو استرداد الأسرى وليدمر الجيش بعد ذلك غزة على رؤوس سكانها فلن يبكيها احد. وعندما سمحت واشنطن الشهر الماضي بصدور قرار مجلس الأمن بالدعوة لوقت إطلاق النار دون استخدم الفيتو لم يختلف موقف المعارضة الليبرالية الناقمة على نتنياهو عن موقف اليمين المتطرف الداعم له، كلاهما ندد بالخيانة الأمريكية وكلاهما أكد ضرورة استمرار الحرب.

نصطدم هنا بتناقض يحتاج لتفسير إذ كيف يؤيدون الحرب وهم يعرفون أن نتنياهو يصر على مواصلتها لأسباب شخصية، كما أن النصر الذي وعدهم به لن يتحقق. وبتعبير رونين ماينليس المتحدث السابق باسم الجيش فإن القول بأن نصرا كاملا سيتحقق هو كذبة كاملة، وأنه لا يمكن القضاء على حماس في بضعة أشهر. يبدو الأمر غير مفهوم أيضا عندما نرى أن الرأي العام الإسرائيلي يرفض وقف إطلاق النار رغم إدراك قطاع واسع منه بأن الحرب لن تحقق الهدف الآخر المهم وهو تحرير الأسرى.

وفرت مجلة «ذي نيشن» الأمريكية علينا عبء البحث عن تفسير بتحليل مهم نشرته الأسبوع الماضي عنوانه «لماذا يشعر الإسرائيليون بالخوف من وقف إطلاق النار؟» تضمن عدة تفسيرات أولها أن تأييد الإسرائيليين لمواصلة القتال رغم سخطهم على نيتانياهو يعود إلى صدمتهم العنيفة بسبب زلزال السابع من أكتوبر أي هجوم حماس المباغت العام الماضي، ولذا فإنهم يرون أن تدمير حماس هو الضمانة الوحيدة لعدم تكراره، ومن ثم لابد من استمرار الحرب. التفسير الآخر يتعلق بمهارة نتنياهو الخطابية فقد نجح في دغدغة مشاعر الجماهير الخائفة بشعاره البراق «النصر الكامل» الذي أصبح أنشودة على لسان الإسرائيليين حتى بين من لا يصدقون كلمة واحدة ينطق بها. في أوج غضبها وخوفها وبحثها عن الأمان تتجاهل الجماهير عادة التقديرات الموضوعية وهي ليست سرية وتفيد بأن النصر الكامل وهم كبير لن يتحقق.

لكن هناك تفسيرا ثالثا لتناقضات المنطق الإسرائيلي وهو أكثر عمقا لأنه يأخذ في الاعتبار مجموعة عوامل سياسية وتاريخية معقدة تغرق المجتمع المأزوم في ضبابية الرؤية التي تغشاه حاليا. إلى صبيحة يوم السابع من أكتوبر 2023 كان هذا المجتمع يعتبر أن المسألة الفلسطينية أصبحت نسيا منسيا، وأنها لا تستحق الاهتمام ولا تستدعي القلق. لكن هجوم حماس قلب الموقف رأسا على عقب، وخلق واقعا جديدا، وأعاد القضية محليا وإقليميا ودوليا إلى صدارة الاهتمام. بات على الإسرائيليين الاختيار بين مسارين للتعامل مع هذا التطور، إما الاعتراف بالحقيقة التاريخية وهي أن هناك شعبا آخر يعيش على أرضه التي يحتلها الجيش الإسرائيلي، أو شن حرب إبادة ضد هذا الشعب لإسكاته. باختصار اختاروا البديل الثاني. ولكي يكون الأمر واضحا كان هذا اختيار الإسرائيليين بكل أطيافهم السياسية وتناقضاتهم وليس قرار نتنياهو وزمرته المتطرفة فقط.

بناء على ذلك بدت فكرة الهدنة تهديدا حقيقيا لرؤية الإسرائيليين وأحلامهم ورفضهم التخلي عن الأرض المحتلة أو الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. اعتبروا الهدنة تسليما بحقيقة مهينة هي هزيمتهم أمام حماس وبأن الأهداف المعلنة للحرب لم تكن واقعية. لا يحتمل الإسرائيليون وليس نتنياهو فقط هذه النتيجة الكارثية ناهيك عن الاعتراف بها.

وبتعبير مجلة «نيشن» فإنه وبصرف النظر عن إهانة السابع من أكتوبر فمن المستحيل على الإسرائيليين ابتلاع الهزيمة أو تصديق إمكانية حدوثها حتى ولو كانت المؤشرات كلها تنطق بعكس ما يتمنون. يخافون من الهدنة أيضا لأنها ستفرض عليهم مواجهة حقيقة أكثر صعوبة وأشد إيلاما وهي أن الأمر الواقع الذي كان سائدا حتى يوم السادس من أكتوبر انتهى تماما. ومادام النصر المنشود أصبح غير ممكن، ولم ولن تحل الحرب الأبدية المشكلة فإن السبيل الوحيد لضمان أمنهم هو تجرع مرارة الحل السياسي مع الفلسطينيين. لكن حتى هذه اللحظة لا يبدو أنهم مستعدون لهذه الخطوة.

بناء على كل ذلك ولكي لا نغضب أهل المنطق نعيد صياغة المسألة باستدلال صحيح هذه المرة: الإسرائيليون غاضبون على نتنياهو لتأخير صفقة الأسرى.. نتنياهو يرفض الهدنة.. الإسرائيليون يريدون تدمير حماس ويرفضون الهدنة، إذن الإسرائيليون يؤيدون استمرار الحرب وإبادة الفلسطينيين.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن