يمكنك أن تصدّق كذلك المحلّلين الموالين لإيران الذين يؤكدون أنها خرجت رابحة من تلك المواجهة وحققت مكاسب كبرى وألحقت بالعدو خسائر كبيرة. أيضًا يمكنك أن تصدّق المحلّلين المقرّبين من إسرائيل الذين يؤكدون أنّ الردّ الإيراني لم يتعدَّ حالة الاحتفالات النارية في سماء إسرائيل وجوارها، وأنّ تل أبيب هي التى ربحت تلك الجولة وبقوة.
كلّ طرف حقق ما يرمي إليه من تلك المواجهة وتركوا للعرب صراعات "السوشيال ميديا"
صدّق كذلك أنّ الولايات المتحدة أثبتت قدرتها على قيادة المنطقة ونسج سيناريوهاتها الاستيراتيجية بتفرّد كامل وبطاعة مكتملة من أعدائها قبل حلفائها.
ويمكنك أن تصدّق أنّ تلك المواجهة تؤكد حقيقة تمرّد إيران على النظام الدولي الأمريكي وقدرتها على تحدي واشنطن وحلفائها حتى تحقيق أهدافها الاستيراتيجية.
يمكنك أن تصدّق الجميع ولا تقع في فخ التناقض الحاد، ربما تتأكد أنّ كلّ طرف حقق ما يرمي إليه من تلك المواجهة، وتركوا للعرب صراعات "السوشيال ميديا" والاستقطابات الحادة.
لماذا يجب أن نصدّق من يقول إنها "مسرحية"؟
ما هو ثابت من معطيات أنّ الضربة الإيرانية كان متفقًا عليها بشكل مباشر أو ضمني بين جميع الأطراف، أخطرت طهران واشنطن وحلفاءها وبالتالي علمت تل أبيب بالهجوم قبل موعده بـ72 ساعة، وزادت في الإخطار بأنها لا تنوي توسيع الصراع، كما أطلقت مسيّرات وصواريخ "من أراضيها" تستغرق ساعات للوصول إلى سماء العدو بما يكفي ليستعد الاستعداد الكامل.
هنا يمكن الحديث عن تغيير قواعد الاشتباك باعتبار أنّ هذا الهجوم هو أول هجوم مباشر ومعلن من الأراضي الايرانية تجاه إسرائيل، وهو أمر جيّد قطعًا، لكنه يستدعي للذهن مشهدًا من الفيلم العربي "البحث عن فضيحة" إنتاج عام 1973 وبطولة عادل إمام وسمير صبري وميرفت أمين ويوسف وهبي.
في ذلك الفيلم حاول سمير صبري الهروب من الفنانة نبيلة السيّد بعد أن تم ضبطه بالخطأ في غرفة نومها، فدخل عليهما والدها (الفنان محمد رضا) وحاول القبض على صبري الذي قفز من الشرفه ما اضطر رضا لمطاردته وإطلاق النار عليه، فما كان لنبيلة السيّد إلا قول جملتها الخالدة "طخّه بس متعوروش يا أبوي".
وضعت نبيلة السيّد لوالدها قواعد اشتباك واضحة، توجيه مباشر بضرب النار، وفي الوقت نفسه تحذير من إصابة الرصاص لهدفه.
هنا كان واضحًا أنّ الضربة الإيرانية استلهمت حكمة نبيلة السيّد باتفاق بين جميع الأطراف ينتهي إلى إثبات عدة حقائق إعلامية في الأساس تؤكد أنّ إيران ضربت وردّت، لكنها لم تؤذِ العدو أو تؤلمه مقارنةً بإجرام الأخير في حق القنصلية بدمشق وحياة من كانوا بداخلها.
ما الذي ربحته إيران من التفكير على طريقة نبيلة السيّد؟
لم يكن ممكنًا أن يمرّ العدوان على القنصلية كما مرّ غيره من ضربات واغتيالات فى ظل وجود خطاب حماسي رهيب يزعق ليل نهار بتحدي إسرائيل، هدّأت طهران الرأي العام المتحمّس داخلها الذي شاهد سماء إسرائيل تُخترق وتُقصف لأول مرة حتى لو كان دون خسائر، وأعادت تسويق نفسها في المنطقة كقوة رادعة يُعمل لها حساب، حتى بتأكد أنّ الأمر متفق عليه مسبقًا وليس تغييرًا استيراتيجيًا حقيقيًا في قواعد الاشتباك، فهو يؤكد أنّ القوة الإيرانية فرضت على باقي الأطراف مشاركتها في صنع مواءمة تمكّنها من تفريغ غضبها فى سياق رد محدود ومحسوب ومرتّب، ولو كانت قوة هامشية في الإقليم ما اكترث أحد بـ"تمكينها من الرد".
أعادت طهران قواعد الاشتباك إلى صيغتها الأولى كصراع غير مباشر واستعادت إسرائيل بعض صورتها في الغرب كضحية
لم تغيّر طهران قواعد الاشتباك إذن بقدر ما فرضت إعادة قواعد الاشتباك إلى صيغتها الأولى كصراع غير مباشر محدود الضربات، وأكدت أنها قادرة على تحويله إلى صراع مباشر لو فرضت ذلك ظروف أخرى، وربما لا تكون مرة قادمة بترتيب مسبق أو تنسيق شبه مباشر. وهي رسالة واضحة بأنها تستطيع خلق أزمة معقدة في الإقليم لو تمرّدت مستقبلًا على ترتيبات الصراع المحسوب.
ربحت إسرائيل كذلك ربحًا كبيرًا من وراء مشهد المسيّرات الإيرانية في سمائها، أعادت شحذ المجتمع خلف الطبقة السياسية والعسكرية بعد تراجع كبير في الثقة بسبب ما جرى ويجري في غزّة من فشل على صعيد الأهداف العسكرية وفضيحة على صعيد الأزمة الإنسانية، وأظهرت جاهزية زائفة للتصدي لهجوم كبير ساعدت العسكرتاريا في الترويج والدعاية له. واستعادت بعض صورتها في الغرب كضحية تتعرّض لهجوم بمئات المسيّرات والصواريخ، ورأبت جزءًا من صدع العلاقة مع الولايات المتحدة بسبب تمرّدها على خطط واشنطن، وصرفت نظر العالم والشاشات والفضائيات ليومين على الأقل عن غزّة ومآسيها، بعد ما يقرب من 200 يوم من تصدّر حربها الإجرامية للأخبار العاجلة، ما ساهم في تخفيف الضغوط عليها في ملف غزّة.
أما الولايات المتحدة فقد أثبتت نجاحها الكامل في احتواء طهران وضبط رد فعلها بما يخدم سياستها بمنع توسيع الصراع وإبقاء القوة الإيرانية المباشرة بعيدًا عن أي تهديد حقيقي وجدي لإسرائيل، ورسّخت قاعدة أنّ القوة الإيرانية الشاملة ليس من الوارد استخدامها بأي شكل لأي سبب ليس متعلقًا بهجوم مباشر على الدولة الإيرانية، حتى لو كان تحرير القدس كما تزخر الخطابات الفارسية، وأثبتت للقادة الإسرائيليين أنّ الرعاية الأمريكية لتل أبيب هي سلاح الدولة العبرية الأول والأهم والأمضى، وغير ذلك مما تقوله تل أبيب عن تفوّقها وقدراتها الذاتية أنه محض وهم وفقاعة كبيرة من اللا شيء.
حتى مع ما يقال وقت كتابة هذه السطور عن ضربة إسرائيلية لأصفهان جنوبي طهران، فقد قالت إسرائيل إنها "صمّمت ضربتها بالشكل الذى يُمكّن إيران من احتواء أثرها"، فيما نفت طهران وقوع أي ضرر.. ما يعني الاستمرار فى تطبيق نظرية "نبيلة السيّد".
حصدت إيران وإسرائيل وأمريكا المكاسب بحساب دقيق، فيما استمر العرب يدفعون وحدهم الفواتير.. وهذا حديث آخر.
(خاص "عروبة 22")