ولا يبتعد هذا المشهد عن السياسة الإسرائيلية المتبعة لاستباق القرارات والأحكام الدولية بمحاولة ممارسة ضغوط سياسية ودعائية على المنظمات الأممية المختلفة بغية إبقائها صامتة، أو للتخفيف من حدة مواقفها من إسرائيل.
كان قد تكرّر هذا الأمر خلال العدوان الحالي على غزّة قبل صدور القرار التاريخي من محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني الماضي بالتدابير المؤقتة الواجب اتخاذها لحماية الشعب الفلسطيني، كما حدثت وقائع مشابهة قبيل التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة وحتى في مجلس الأمن على مشروعات القرارات المتتالية لوقف إطلاق النار.
والواقع أنه على النقيض من محكمة العدل الدولية، فقد اتسم تحرك المحكمة الجنائية الدولية من بداية العدوان بالبطء الشديد، على الأقل قياسًا بتحرّكها السريع للغاية في قضية الحرب الروسية الأوكرانية، والتي كانت الاختبار الأول للمدعي العام للمحكمة القانوني البريطاني كريم خان بعد نحو سبعة أشهر من توليه منصبه، إلى حد تجميع أدلة ضد القوات الروسية خلال شهرين اثنين فقط من بداية الغزو، وإرسال أكثر من أربعين محققًا وخبيرًا إلى أوكرانيا تحت حماية دولية.
وعلى الرغم من الفارق الهائل في طبيعة العدوان وقسوته وشموله وعدد الضحايا بين أوكرانيا وغزّة، ودخول جميع الممارسات الإسرائيلية دون استثناء تحت التعريف القانوني الأصيل للإبادة الجماعية، وعلى الرغم أيضًا من اعتبار محكمة العدل الدولية الشعب الفلسطيني مجموعة عرقية محمية بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية، فقد ظلّ كريم خان متخاذلًا في اتخاذ أي تحرك قوي يهدف إلى وقف العدوان، بل إنه زار الكيان الصهيوني والتقى بعدد من أهالي الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزّة واستقبل آخرين في لاهاي، وأدلى بتصريحات مطابقة للرواية الصهيونية التي كانت تقرن "طوفان الأقصى" بـ"الهولوكوست".
عنصران يؤخران تحرّك الجنائية الدولية
يكمن الفارق الأساسي بين أوكرانيا وغزّة في عنصرين مهمّين لدى المحكمة الجنائية الدولية؛ الأول: هو افتقار المساندة والتغطية من الولايات المتحدة - التي لا تعترف بقرارات المحكمة من الأساس - والدول الغربية الأخرى وعلى رأسها ألمانيا - ثاني أكبر مصدر تمويل للمحكمة - والتي كانت تدفع بإلحاح إلى تحرك عاجل ضد موسكو منذ الأسابيع الأولى للغزو، ظنًا في قدرة الأوروبيين ومن خلال القرارات الدولية على تقويض دعائم النظام الحاكم في روسيا ومحاصرته، الأمر الذي أثبت فشله لاحقًا.
أما العنصر الثاني والمتعلّق بالاعتبارات الداخلية: فهو محاولة أن يفضي التحقيق لإصدار قرار "متوازن" و"قابل للتنفيذ نظريًا" بدلًا من إصدار قرارات ستظل صورية فتكرّس صورتها كمحكمة للبلقان وأفريقيا جنوب الصحراء فقط ومن ثم تستمر أهميّتها في التضاؤل، أو أنّ تلك القرارات ستجلب المشاكل للمحكمة بإغضاب القوى الغربية الكبرى فيتراجع تمويلها أو تزيد الضغوط عليها.
التوضيحات السابقة ذكرتها مصادر دبلوماسية وقانونية قريبة من عمل المحكمة الجنائية الدولية في تصريحات خاصة لـ"عروبة 22"، والعنصر الأول يُفهم سياقه بسبب الموقف الأوروبي المعادي لروسيا والحشد الذي قامت به المنظمات الحقوقية الغربية لجمع الشهادات والتقارير والأدلة على جرائم الجيش الروسي والتي استقى من بعضها كريم خان قضية "نقل أطفال أوكرانيا إلى روسيا" التي تسببت – على هامشيّتها بالنسبة للأحداث - في إصدار قرار اعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على الرغم مما شاب بعض الوقائع من شكوك تزعزع الثقة في الأدلة والشهادات.
أما العنصر الثاني فسياقه محكوم بوقائع سابقة. إذ بحسب المصادر لا يرغب خان في إصدار قرار اتهام في قضية غزّة يضعه في خانة المدعية السابقة للمحكمة فاتو بنسودا التي تواجه حتى الآن إجراءات عقابية منها المنع من دخول الولايات المتحدة بسبب فتحها تحقيقًا في ممارسات الجيش الأمريكي في أفغانستان، الأمر الذي كان قد دفع خان سابقًا إلى التركيز على قضايا غير جدلية مثل أحداث بوروندي ومالي وفنزويلا بدلًا من أفغانستان والأراضي الفلسطينية في الفترة السابقة على "طوفان الأقصى".
الخيارات المطروحة أمام المدعي العام
كما كشفت المصادر أنّ كريم خان تلقى "نصائح" من مسؤولين ومقرّبين بأن يكون التحقيق "متوازنًا" بمعنى أن يشمل الجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني وكذلك عملية "طوفان الأقصى"، باعتبار أنّ حركة "حماس" جزء من الشعب الفلسطيني والدولة الفلسطينية المنضمة إلى ميثاق روما الحاكم لإجراءات المحكمة الجنائية الدولية ومن ثم فإنها تخضع لسلطة المحكمة واختصاصها، وبالتالي يعبّر القرار عن "الحياد" بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني الذي لا يعترف أصلًا بسلطة المحكمة ويناهضها علنًا.
أما النصيحة الأخرى التي تلقاها كريم خان فهي أن يكون القرار قابلًا للتطبيق، بمعنى أن يبتعد عن استهداف نتنياهو شخصيًا أو أي مسؤول رسمي آخر يصعب اعتقاله أو فرض قيود على حركته وإصدار مذكرات توقيف له، كما حدث مع بوتين، والتركيز على استهداف قادة عسكريين أو ميدانيين يمكن التضحية بهم مستقبلًا أو لا يؤثر تقييد تحركاتهم الدولية على علاقة إسرائيل بالدول الغربية. أما بالنسبة لقادة "حماس" المختفين والذين تبحث إسرائيل نفسها عنهم فلن يضر كريم خان شيئًا إصدار قرار باعتقال عدد منهم، فهم لن يتأثروا بقيود السفر عبر الحدود.
وأشارت المصادر إلى أنّ كريم خان وفريق التحقيق المعني بقضية غزّة لم يحسموا بعد خياراتهم على ضوء تلك النصائح، لكن الأكيد أنهم يعملون على طلب إصدار قرار ضد إسرائيل وحماس معًا "ربما بنسبة تُحمّل الصهاينة قدرًا أكبر من المسؤولية"، علمًا بأنّ الدائرة التمهيدية بالمحكمة هي المختصة بحسم حدود هذا الطلب في النهاية، ولكنها ستعتمد بالتأكيد على نتائج التحقيق الذي سيكون "شاملًا ويتضمّن خسائر الفلسطينيين والإسرائيليين سويًا".
وعلى ضوء تلك المعطيات فليس من المستبعد أن تستهدف الحملة الإسرائيلية الاستباقية على المحكمة قصر الملاحقة فقط على عناصر عسكرية أو أمنية محدودة، وتوجيه رسالة تحذير شديدة اللهجة للمحكمة لإبعادها عن ملاحقة نتنياهو أو القادة السياسيين، في وقت باتت الدوائر الغربية – بما في ذلك الداعمة لإسرائيل - باتت تستشعر أكثر من أي وقت مضى أنّ استمرار صمت كريم خان على كل ما يحدث في غزّة يمثّل إحراجًا بالغًا للمحكمة الجنائية الدولية، ومنظومة العدالة الدولية بشكل عام، لا سيما وأنّ قرار المحكمة الصادر في فبراير/شباط 2021 بجواز ممارسة اختصاصها الجنائي في غزّة والضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة لا يترك لخان أية أعذار شكلية قد تعطّل تحريك قضية مجازر غزّة.
(خاص "عروبة 22")