الانتقادات العلنية التي دأب الرئيس الأمريكى جو بايدن على توجيهها للحكومة الإسرائيلية لا تعكس أزمة حقيقية في العلاقات بين البلدين بقدر ما تعبر عن خلافات جوهرية في وجهات النظر بين صديقين حميمين. لا تعني تحفظات بايدن على سياسات بنيامين نتنياهو أن العلاقات القوية بين البلدين يمكن أن تتأثر أو تضعف. حرصه على دعوة الرئيس الإسرائيلى اسحق هيرتزوج مرتين خلال أقل من عام للقائه بالبيت البيض رسالة واضحة تعبر عن هذا المعنى، وتشير بوضوح إلى أن خلافه هو مع رئيس الوزراء وليس إسرائيل.
تنصب انتقادات بايدن على قضيتين أساسيتين هما مشروع قانون الإصلاحات القضائية الذي تتمسك به الحكومة الإسرائيلية، وسياستها بالغة التطرف تجاه الفلسطينيين سواء استخدامها للعنف المفرط أو السعار الاستيطاني الذي ينتابها في ظلّ أكثر الحكومات تطرفًا في تاريخ إسرائيل وهو تعبير بايدن نفسه.
هذه ليست المرة الأولى التي تنشب فيها خلافات بين الجانبين. لكن الحديث عن أزمة حقيقية تهدد العلاقات ينطوي على مبالغة كبيرة. ولم يكن الصحفي الشهير توماس فريدمان مقنعًا عندما كتب في نيويورك تايمز بعد لقاء بايدن أن الرئيس يرى أن تمرير مشروع القانون سيهدد الهوية الديمقراطية لإسرائيل، ويلحق أضرارًا بعلاقتها مع أمريكا لن يكون ممكنًا استعادتها أو إصلاحها. كذلك لم يكن شوك فريليتش النائب السابق لمستشار الأمن القومى الأمريكى والباحث بجامعة هارفارد موفقًا عندما اعتبر أن الأزمة الحالية واحدة من أخطر الأزمات التي تعصف بالعلاقات بين الحليفين.
على النقيض كان جوناثان شانزير نائب رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية أكثر واقعية بقوله إن طبيعة العلاقات بين البلدين تحتمل هذا النوع من العواصف، وقد حدث ذلك في 2013 و2015 بسبب الاتفاق النووي مع إيران الذي عارضته إسرائيل بشراسة. كان على صواب أيضًا بقول إن بايدن ونتنياهو تشاركا في العمل السياسى لعقود وتشاجرا وتصالحا ويعرفان كيف يحتويان أي خلافات طارئة لا تفسد الود بينهما.
حديث الباحث الأمريكى عن الجانب الشخصي في المشكلة يبدو واقعيًا إذ لا يمكن تجاهل طبيعة العلاقات بين الرجلين كأحد مكونات وأسباب التنافر بينهما وليس بين البلدين. شخصية نتنياهو المتعجرفة لعبت دورًا مهمًا في تأزيم علاقته ببايدن. سوابقه معه ومع أوباما قبله خلقت مشاعر سلبية لا يمكنه تجاهلها. يتذكر بايدن أنه عندما كان نائبًا للرئيس تعرّض لإحراج بالغ خلال زيارته لإسرائيل حيث فاجأه نتنياهو بالإعلان عن بناء 1600 وحدة استيطانية بالقدس الشرقية. لم تكن تلك سوى السابقة الأولى في سلسلة استفزازات وإهانات وجهها نتنياهو بجلافة لا يحسد عليها لنفس الإدارة، فقبل 9 أيام فقط من تنصيب بايدن أحرجه بالإعلان عن بناء 800 وحدة استيطانية. لا ينسى بايدن بالطبع، وكيف له أن ينسى، الإهانة القاسية التي وجهها نتنياهو لإدارة أوباما بتجاهلها، وقبوله دعوة أصدقائه الجمهوريين لإلقاء كلمة أمام الكونجرس لمهاجمة الاتفاق النووي 2015.
قبل ذلك بأربع سنوات وفي مايو 2011 تعامل بوقاحة مع أوباما عندما ألقى عليه محاضرة بالبيت الأبيض أمام وسائل الإعلام عن خطورة مشروع الاتفاق. وبعد انتخاب بايدن انتظر رئيس الوزراء خمسة أيام ليغرّد على تويتر بتهنئته، بينما ظل يحتفظ بصورته مع ترامب فى حسابه على التطبيق.
من الطبيعي أن يردّ بايدن هذه الصفعات بأحسن منها. انتظر شهرًا كاملًا عقب انتخابه قبل أن يتصل بصديقه الإسرائيلى المتعجرف في حين كان ترامب قد اتصل به بعد يومين فقط من توليه السلطة. ومنذ عودته للحكم قبل نحو سبعة أشهر لم يتلق نتنياهو دعوة من الرئيس لزيارته بالبيت الأبيض وهي حالة استثنائية في تاريخ العلاقات بين البلدين. وعندما تحدث إليه أخيرًا لم ينعم عليه بشرف الدعوة للمكتب البيضاوي. وقال بيان الرئاسة إن الجانبين اتفقا على اللقاء في الولايات المتحدة قريبًا دون أن يذكر كلمة «دعوة» أو يحدد موعد ومكان اللقاء.
ومع ذلك تبقى هذه التصرفات كلها شكليات لن تؤثر على العلاقات الوطيدة. قد يكون لبايدن ثأر شخصي مع نتنياهو لكن هذا لا ينفي حقيقتين الأولى أنه كان وما زال صديقًا مخلصًا وقويًا لإسرائيل وصهيوني حقيقي كما يصف نفسه. الثانية أنّ قلق الإدارة من تطرف حكومة نتنياهو مبرر سواء بسبب قانون القضاء أو اندفاعها الهستيري نحو الاستيطان وعنفها الجنوني تجاه الفلسطينيين. مثل هذه السياسات تضع بايدن في حرج بالغ، ليس مع أصدقائه العرب فغضبهم، إذا غضبوا، لا يشغله. ما يعنيه هو الجناح التقدمي بالحزب الديمقراطى الذى يضغط من اجل موقف أكثر حزمًا تجاه الاستفزازات والاعتداءات الإسرائيلية. هذا أحد جوانب المأزق الذي يواجهه. ثمة جانب آخر هو أنه لا يمكنه الاستمرار في تجاهل نتنياهو فلن يحل ذلك المشكلة، ولن يخفف من غلواء المتطرفين في حكومته. كما لا يستطيع المضي أكثر في انتقاد إسرائيل لا سيما وهو على أعتاب عام انتخابي، لكنه في الوقت نفسه لا يمكنه الصمت على سياسات سبق أن انتقدها علنًا وإلا كان ذلك تراجعًا مهينًا سيكلفه أصوات كتلة ديمقراطية كبيرة، فضلًا عن اليهود الأمريكيين القلقين من تطرف الائتلاف الحاكم بإسرائيل.
ماذا يفعل بايدن المأزوم؟ يرى الون بينكاس القنصل العام الإسرائيلي السابق في نيويورك أن اتصاله هاتفيا بنتنياهو كان تكتيكًا ذكيًا وهو أفضل الحلول الممكنة لأنه أتاح له تجنب سهام الجمهوريين المسمومة واتهامهم له بالإساءة إلى حليف ديمقراطي عزيز. أنجز هذا دون منحه شرف الحضور إلى البيت الأبيض. لم يخسر شيئًا بتخصيص بضع دقائق لنتنياهو تركه يتحدث فيها كما يشاء، قبل أن يُسمعه ما لا يسره عن مشروع القانون والعنف والاستيطان. ثم ودّعه ليستعد لاستقبال هيرتسوج بالبيت الأبيض.
(الأهرام)