ويُعد المقال في غاية الأهمية، ليس فقط لما يحمل من تحديد للمسارين/للخيارين اللذين لا ثالث لهما، والذي على إسرائيل أن تختار بينهما، ولا للتحليل البارع لنتائج كل خيار/مسار، وإنما للتشريح الكاشف للموقف الأمريكي وسقفه اليميني، كذلك حال الداخل الإسرائيلي الذي يحكمه إجمالًا اليمين المتشدد.
(1) - يبدأ "فريدمان" مقاله بعرض تصوّر الدبلوماسية الأمريكية "لإنهاء حرب غزّة" بأنه يُعنى مباشرةً "بصياغة علاقة مباشرة مع السعودية"، وتنفيذ الاتفاق المبدئي للسلام الذي تم التوافق عليه، قبل الحرب، بينها وبين أمريكا عبر استثمارات ضخمة يستفيد منها حلف السلام في المنطقة. وهو التصور الذي لخصته الدراسة المعنونة: "هل الحرب على غزّة أعادت تشكيل الشرق الأوسط"؛ (نُشرت في دورية "فورين أفيرز" مطلع العام والتي عرضنا وعلقنا عليها تفصيلا في مقال حمل العنوان نفسه ونُشر في "عروبة 22" في 17 يناير/كانون الثاني).
يطرح فريدمان سؤاله على نتنياهو: أي طريق تريد أن تواصل السير فيه - رفح أم الرياض؟
ويقوم الاتفاق - بالأساس - على تفعيل المشروع الاقتصادي الشرق الوسطي "الميجا" والذي أطلقنا عليه: اقتصاد الممرات العابرة للقارات Economic Corridors؛ ووصفناه "بسلام الاستثمار". وهذه الرؤية أوجزها فريدمان "بخيار الرياض". وفي المقابل، وبفعل حرب الإبادة التي يقوم بها نتنياهو، ومن خلفه التحالف المتشدد، والتي يريد أن يتوّجها باجتياح رفح؛ ظهر الخيار الآخر: خيار رفح.. وهنا يطرح فريدمان سؤاله على رئيس الوزراء الإسرائيلي: أي طريق تريد أن تواصل السير فيه - رفح أم الرياض؟.
(2) - يفنّد "فريدمان" الخيارين، في صيغة سؤالين موجّهين لنتنياهو كما يلي:
أولًا: هل تريد التصعيد بالذهاب إلى أقصى مدى في غزو رفح من أجل القضاء على "حماس" - إن كان هذا ممكنًا - وذلك دون تقديم إسرائيل إستراتيجية للخروج من غزّة أو أي أفق سياسي لحل الدولتين من غير "حماس"؟.
أو ثانيًا: تريد التطبيع مع السعودية، وقوى حفظ السلام في غزّة، والتحالف الأمني ضد إيران بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية؟.
ويحذره فريدمان من أنّ نهج الطريق الأول إنما يعني مفاقمة العزلة العالمية لإسرائيل، وتصدع إدارة بايدن. أما بالنسبة للخيار الثاني فسيستدعي التزامًا من حكومتك للعمل من أجل دولة فلسطينية ذات سلطة تقبل بإجراء إصلاحات، ما سيترتب عليه ميزة التمتع غير المسبوق للدولة اليهودية بالاندماج في تحالف الدفاع الواسع الأمريكي العربي الإسرائيلي، وميزة توفير أكبر جسر لباقي العالم الإسلامي. واختصر، فريدمان، الخيارين بكلمتين هما: خيار "النبذ العالمي global pariah (خيار رفح)، أو الشراكة الشرق أوسطية Middle East partner (خيار الرياض)".
(3) - كان فريدمان واضحًا في تحذيره لإسرائيل من تداعيات خيار رفح من جانب، وفوائد خيار الرياض من جانب آخر، إلا أنّ المقال كشف العديد من الحقائق:
أولها: أنّ كلا الخيارين مُرّ. فالأول انتحاري وانفجاري بطبيعة الحال. والثاني بالرغم من كل الفوائد التي يمكن للكيان الإسرائيلي أن يجنيها لكنه في واقع الحال ما هو إلا صورة معدلة للمسار الذي كان الجميع ينهجونه قبل "طوفان الأقصى" ولم يؤدِ في النهاية إلا لحرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ثانيًا: لا حديث قط عن الحل الشامل الذي يتضمن حسمًا للمعضلة التاريخية الفلسطينية وملفاتها العالقة: الحدود، واللاجئون، والقدس، والأسرى.
الحل المطروح لوقف الإبادة يتراوح بين حل يميني وآخر يميني متشدد
ثالثًا: القراءة المتأنية لمقال فريدمان تشير إلى تخوّف الجانب الأمريكي من رغبة المتشددين في إسرائيل باستمرارية الحرب سعيًا "للنصر التام"، ما دفعه إلى وصف ذلك "بالجنون النقي" pure insanity؛ لأنّ الحرب المستمرة منذ شهور يحركها "الثأر"، ولا يمكن للثأر أن يكون استراتيجية.
رابعًا: إنّ الحل المطروح لوقف الإبادة يتراوح بين حل يميني وآخر يميني متشدد. إذ إنّ إدارة بايدن - كما يكشف فريدمان - لا تمانع - إعلاميًا - أن ينخرط نتنياهو في غزو تام لرفح شريطة توفر خطة تؤمن عدم إعاقة أكثر من مليون من المدنيين للغزو بإخراجهم من أرضية الميدان.
وبعد، إنها لحظة جيوسياسية تاريخية فارقة سوف نرى أيًا من الخيارين ستكون له الغلبة.. أم أنّ هناك خيارًا ثالثًا؟.
(خاص "عروبة 22")