لا يزال البعض في عالمنا العرب غير مقتنع بأن عالم ما بعد العدوان الصهيوني على قطاع غزة يختلف إلى حد كبير عما سبقه، وأن الثبات والصمود الفلسطيني في وجه آلة القتل والدمار والتجويع الإسرائيلية أعاد - ولو بشكل جزئي - الدعم المفقود للحقوق الفلسطينية المنسية منذ عقود. يكفي للتدليل على هذا التغير النوعي ما حدث من مواقف وقرارات وخطوات دولية جريئة خلال شهر مايو الجاري فقط، انتصرت بقوة ووضوح لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وعلى نحو لم يكن أحد يتوقع حدوثه حتى في أكثر أحلامه تفاؤلًا.
بدأ هذا الشهر بانتصار دبلوماسي مهم للشعب الفلسطيني، عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من مايو الجاري على مشروع قرار «يدعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة، ويوصي مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب، كما يحدد طرقا لإعمال حقوق وامتيازات إضافية تتعلق بمشاركة فلسطين بالأمم المتحدة».
بعد هذا القرار بعشرة أيام فقط، وبالتحديد في 20 الجاري، أحدث الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، زلزالا عنيفا قض مضاجع الكيان الصهيوني وداعميه، وأسقط الحصانة عن مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين استباحوا الدم الفلسطيني، عندما أعلن عن تقدمه بطلب إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية في حرب غزة. وقال كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إنه «قدّم طلبات لاعتقال نتنياهو وجالانت لأن لديه أسبابا معقولة للاعتقاد بأنهما يتحملان المسئولية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت في قطاع غزة بداية من 8 أكتوبر 2023»، مشيرا إلى تلقيه تهديدات من أجل التوقف عن السير في هذا الطريق، لكنه أكد خلال مقابلة مع CNN الأسبوع الماضي أن التهديدات «لن تثنيه عن عمله، لأننا علينا أن نفي بمسؤولياتنا كمدعين عامين بالإخلاص للعدالة».
انتصار آخر للفلسطينيين في «مايو»، الذي ظل حتى وقت قريب عنوانا لـ«النكبة» التي حلت بهم عام 1948، جراء قيام دولة الكيان الصهيوني، التي شردتهم وهجرتهم من أرضهم، حيث أقدمت ثلاث دول أوروبية، هي النرويج وإسبانيا وأيرلندا، الأربعاء الماضي، على الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة في صفعة مدوية لإسرائيل، التي حاولت دائما قمع أي تحرك دولي من شأنه الاعتراف بوجود شعب فلسطيني لديه الحق في إقامة دولته المستقلة على أرضه المحتلة. رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز قال أمام البرلمان، إنه تم الاعتراف بدولة فلسطين من أجل السلام والعدالة.
وتابع: «نقول للفلسطينيين الأبرياء بأننا معهم رغم التدمير والحصار فإن دولة فلسطين ستبقى في قلوبنا». أما رئيس وزراء أيرلندا سايمن هاريس، فقال إن شعب فلسطين يستحق مستقبلا مليئا بالأمل والسلام، مؤكدا أنه «لا مستقبل للنسخة المتطرفة من الصهيونية التي تغذي عنف المستوطنين والاستيلاء على الأراضي». لم تنته الانتصارات المتتالية للفلسطينيين في شهر مايو، إذ إنه وحتى وقت كتابة هذا المقال، كانت محكمة العدل الدولية تستعد لإصدار حكمها بشأن التدابير المؤقتة التي طالبت بها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في قضية الإبادة الجماعية بغزة، وهى خطوة تمثل ضغطا هائلا على الكيان الصهيوني لوقف عدوانه النازي على الفلسطينيين، والذي أدى إلى سقوط أكثر من 35 ألف شهيد حتى الآن معظمهم من النساء والأطفال.
كل ما سبق من تغير هام في المواقف الدولية لصالح القضية الفلسطينية، كان بلا شك نتيجة طبيعية للتضحيات والثبات والصمود الفلسطيني في حرب غزة، التي فضحت وعرت عنصرية وهمجية ونازية الكيان الصهيوني، وأسقطت ورقة التوت عن داعميه، خصوصا الولايات المتحدة، كما أنه يشكل انتصارا للحقوق الفلسطينية المشروعة، التي حاول الكيان الصهيوني تجاهلها على مدى عقود مضت.. صحيح أن الثمن الذي دفعه الفلسطينيون باهظ، إلا أن التحرر من براثن الاحتلال يتطلب دائما التضحيات، وبالتالي فإنه يجب على البعض في عالمنا العربي، ممن لا يزال يتجاهل رياح التغيير في العالم لصالح الفلسطينيين بعد العدوان على غزة، ولا يخجل من اتهام المقاومة بأن قرارها شن هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضى كان «مختلا»، مراجعة نفسه قليلا، والتواري عن الأنظار قبل أن يغرق أكثر في الوحل!!
("الشروق") المصرية