لا يُلزم الدستور المصري الحكومة بتقديم استقالتها عقب تنصيب الرئيس المنتخب لولاية جديدة، أما عن الأعراف المتبعة في الدول الديمقراطية والتي تقضي بتقديم الحكومة استقالتها للرئيس المنتخب فليس لها في بلادنا أي اعتبار، إذ إنّ مصر كما غيرها من الدول العربية فاتها منذ عقود قطار الديمقراطية، ومن حاول منها اللحاق به خلال موجات الربيع العربي إما سقط بمستنقع الفوضى والتفكك أو بدعوى الحفاظ على الاستقرار تمسك بالوقوف على محطة الاستبداد والتسلط، وكانت النتيجة أن استمر الفريقان في مسار لا يؤدي إلا إلى الانحطاط والجهل.
البيان الرئاسي الصادر عقب تقديم مدبولي لاستقالة حكومته وإعادة تكليفه بتشكيل حكومة جديدة، لم يُشر إلى أي إخفاق أو حتى تقصير طال الأداء الحكومي ما يستوجب رحيلها، بل ما جرى هو العكس فكل دوائر صناعة القرار وجهت من خلال أذرعها الإعلامية الشكر للرئيس على تجديد الثقة في رئيس الحكومة الذي بدأ مسار الإصلاحات قبل 6 سنوات. وأغفلوا عن عمد أنّ ذلك المسار هو الذي أوقع الدولة في متوالية أزمات اقتصادية عنيفة كادت أن تسقطها في هوة الإفلاس لولا القرار الذي صدر بتوافق بين الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب والإقليم لدعم السلطة المصرية حتى لا تتعرّض مصر ومن بعدها المنطقة لموجات جديدة من الفوضى.
الولايات المتحدة الأمريكية تسيطر على الدول عبر إغراقها في دوامة الديون حتى تسلبها حريتها واستقلال قرارها
في مطلع يوليو/تموز 2018، عرض مدبولي برنامج حكومته الجديدة على مجلس النواب، تعهّد فيه بـ"حماية الأمن القومي والحفاظ على حقوق مصر المائية، وتمكين فئات الشعب من الاستفادة من نتائج برنامج الإصلاح خلال عامين".
وخلال شرحه للبرنامج الذي جاء تحت شعار "مصر تنطلق" أسرف مدبولي في إطلاق وعود تتعلق بخفض معدلات الدين الحكومي، والسيطرة على معدلات التضخم، وتحسين مؤشرات الأداء الاقتصادي، كما تعهد أيضًا بـ"تأمين الطاقة لطالبيها بجودة عالية وسعر منافس".
وفي رسالة إلى الفئات "الأكثر فقرًا وتهميشًا" قال مدبولي إنّ المواطن المصري سيشهد طفرة ملحوظة وتحسنًا ملموسًا في العديد من الأمور المرتبطة بحياته اليومية خلال شهور قليلة. وختم حديثه إلى الشعب المصري بقوله: "لقد صبرت كثيرًا وتحمّلت كثيرًا، وأرجو أن تتأكد أنه مضى الكثير ولم يبقَ إلا القليل".
لم يتحقق بالطبع أي من تلك الوعود، فالدين الخارجي قفز من نحو 90 مليار دولار إلى ما يقارب الـ170 مليار دولار، فيما لم يتغيّر رقم الاحتياطي النقدي تقريبًا إذ راوح عند حدود الـ45 مليار دولار، وانهار الجنيه المصري الذي فقد خلال تلك السنوات نحو 70% من قيمته، بحيث بلغ سعر الدولار الرسمي 48 جنيه بعد أن كان قبل 6 سنوات في حدود الـ18 جنيه، وهو ما كان له أبلغ الأثر على أسعار جميع السلع والخدمات فوصلت معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة وضعت أكثر من نصف الشعب المصري تحت خط الفقر.
وفيما يخصّ الأمن المائي وأمن الطاقة اللذين تناولهما برنامج الحكومة فحدّث ولا حرج، إذ أكملت الحكومة الإثيوبية بناء سد النهضة الذي سيؤثر بالسلب على حصة مصر من مياه النيل في سنوات الجفاف، وبالتوازي حلّ الظلام على بيوت المصريين نتيجة سياسة تخفيف أحمال الكهرباء التي تتبعها الحكومة منذ عام تقريبًا.
الحكومة ورئيسها وأجهزتها ما هم سوى موظفين ينفّذون تعليمات دائرة صناعة القرار الضيّقة المحيطة برئيس الجمهورية
أما عن ملفات التعليم والصحة وباقي الخدمات، فالأمر يحتاج إلى سلسلة من المقالات لرصد ما جرى بها من تراجع، وبدلًا من أن تعمل الحكومة على النهوض بها وتطويرها أصدرت تشريعات ولوائح لتعفيها من أعبائها وتسلّم بمقتضاها المسؤولية إلى القطاع الخاص إنفاذًا لتعليمات صندوق النقد والبنك الدوليين وباقي المؤسسات المالية الدولية المقرضة والتي لا تعدو كونها ذراعًا للولايات المتحدة الأمريكية تهيمن وتسيطر بها على الدول عبر إغراقها في دوامة الديون حتى تسلبها حريتها واستقلال قرارها، حسبما اعترف الاقتصادي الأمريكي جون بيركنز الذي عمل في وكالة الأمن القومي كقرصان اقتصادي في كتابه "اعترافات قاتل اقتصادي".
لا يختلف اثنان في مصر على أنّ الحكومة ورئيسها وأجهزتها لا يصنعون السياسات، وما هم سوى موظفين ينفّذون التعليمات التي تصدر لهم من دائرة صناعة القرار الضيّقة المحيطة برئيس الجمهورية، وأنّ إقالة الحكومة أو تغيير بعض وزرائها ما هو إلا "تحصيل حاصل"، مع ذلك كان البعض يأمل في أنّ درس السنوات الست التي انزلقت خلالها مصر في هذا المستنقع قد يدفع السلطة إلى إعادة النظر في توجهاتها السابقة، وأن تطرق مسارًا جديدًا خلال ولاية السيسي الثالثة والأخيرة تعتمد فيه على أصحاب الخبرة والكفاءة وليس على "هزّازي الرؤوس" الذين لا يجرؤ أي منهم على مخالفة أو حتى مناقشة أصحاب السلطة الحقيقيين في قرار أو مشروع.
(خاص "عروبة 22")