حاولت ميلوني إحياء المشروع اليميني بعدّة قرارات وإجراءات، نجحت في أغلبها، لكن القرار الأخير الذي اتخذته، والقاضي بنشر الإيديولوجية الموسولينية في الجسد الثقافي والإعلامي في إيطاليا، كان هدفه محاصرة ثقافية لكل صوت ثقافي ونقدي يقف ضدّ عودة الفاشية والنازية مجددًا لإيطاليا. فكيف حدث هذا؟.
معلوم أنّ العمود الفقري للفاشية لا يخرج عن الإقصاء والتهميش والإلغاء لأي شيء له صلة بالآخر. فاليميني يرفض أن يكون لليساري أي صوت أو تظاهرة أو منشور على وسيلة تواصل اجتماعي.
حاولت ميلوني إحياء المشروع اليميني عبر نشر الإيديولوجية الموسولينية في الجسد الثقافي والإعلامي في إيطاليا
بدأت رحلة الإقصاء الثقافية في الفاشية الجديدة في إيطاليا وبأوامر ميلوني، حين حطّت رحالها لدى كوكبة من الفلاسفة والمؤرخين والمفكرين والكُتّاب. تشير وسائل الإعلام إلى أنّ ميلوني قرّرت الاستحواذ على وسائل الإعلام في إيطاليا خصوصًا التلفزيون العمومي، والتحكم بالتالي في الفضاء الثقافي العمومي، عبر إنتاج سرديات مختلفة وبرامج متنوعة ليخدم مصالح الأيديولوجيا الفاشية لحزب ميلوني، ووضعت كل من ينتمي للصوت الثقافي الآخر على وضعية الإزاحة.
بدأت أولًا مع الكاتب الإيطالي الشهير روبيرتو سافيانو الذي عُرف عنه أنّه مهدَّدٌ وملاحقٌ من قبل المافيا الإيطالية "كامورا" حين فضحها وعرّاها في كتاباته وأفلامه منها المسلسل الشهير "zero zero zero".
في أحد برامجه الثقافية، انتقد سافيانو الأسلوب الهمجي واللاإنساني في تعامل الحكومة الإيطالية مع المهاجرين واللاجئين بإغراقهم في البحر، ومن ذلك، مشهد لغرق طفل حين تحطمت السفينة التي كانت تُبحر به صوب الشواطئ الإيطاليّة، بحيث وصف ميلوني وسالفيني بأنهم "أوغاد"، فما كان من ميلوني إلّا أن تقدمت بشكوى ضده، وقد أدين سافيانو وغرّم بمبلغ قدره 1000 يورو، مع تحمل أتعاب المحاماة.
من الأصوات النقدية التي تحاصرها ميلوني بالشكاوى والدعاوى القانونية أيضًا، الروائية ميكيلا مورجيا، والتي رحلت في 10 أغسطس/آب 2023، وترى مورجيا أنّ معركتها مع ميلوني معركة شخصية بحتة، وما يهم ميلوني في الشكوى المرفوعة ضد مورجيا هو إنفاق الأموال على المحامين، حتى إنّها لا تدفع يورو واحد كأتعاب لمحاميها. الطريف في الأمر أنّ محامي ميلوني صار نائبًا لوزير العدل في حكومة ميلوني.
ومع هذين الصوتين الثقافيين، برز صوتٌ ثقافيٌ ونقديٌ جاء من أروقة جامعة ميلانو، والحديث عن أنتونيو سكوراتي الذي كتب سيرة ذاتية ضخمة عن بينيتو موسليني وتمّ حظر مروره في برنامج فضائية "الراي"، لأنّه ينتقد الحكومة. يقول سكوراتي: "لا يمكنك مواصلة عملك إلّا إذا ظللت صامتًا، إذا نفذت الأوامر ولم تسبب قلقًا".
ثمّة سلسلة أخرى من القيادات السياسية، إضافة إلى ميلوني، شرعت في ممارسة الإقصاء الثقافي بكل من ينتقد أسلوب الحكومة مع المهاجرين، منهم فرانشيسكو لولوبريجيدا، وهو مقرّب من ميلوني ووزير الزراعة بالحكومة الذي اشتكى ضد الفيلسوفة دوناتيلا دي سيزار حين وصفته بأنّه "هتلر جديد" مع نظريته الجديدة "الاستبدال العرقي"، وفحواها أنّ الإيطاليين الذين يعانون من العقم سيستعيضون عن عقمهم بأطفال المهاجرين، ولكن ما حدث أنّ القاضي حكم ببراءة الفيلسوفة واعتبر أنّ الشكوى غير لائقة تمامًا.
تقول دي سيزار إنّ المحامي وقت مرافعته داخل المحكمة قرأ خطابًا مطولًا وواضحًا، شرح ما تتعرّض له المعارضة من تجريم وتضييق وأجواء الرقابة، كما تطرّق لمصطلح "الاستبدال العرقي"، وهو المصطلح المتداول في كتاب ميلوني، وعنوانه "أنا جورجيا".
لم ينجُ لوتشيانو كانفورا هو الآخر من عملية العزل الثقافي، وهو أستاذ فخري للكلاسيكيات والمكتبات القديمة في جامعة باري، له كتاب بعنوان "المكتبة المخفية"، حيث يتحدث فيه عن مكتبة الإسكندرية وتُرجم لأزيد من عشر لغات عالميّة.
وصف كانفورا ميلوني بأنّ النازية الجديدة تسري وتجري في أوصالها. كما صرّح كانفورا بأنّ حزب "إخوة إيطاليا" له جذور تاريخية في الجمهورية الإيطالية الاشتراكية في أربعينيات القرن الماضي التي تلقت حماية من الرايخ الثالث، وهي الجمهورية التي يتذكرها الإيطاليون جيدًا، بل يصفون تلك المرحلة الحرجة من تاريخهم بالفاشية النازيّة، في إشارة لاختلاط الفاشية الموسيلينية بالنازية الهتلرية.
لم تتخلّص إيطاليا من عزل ثقافي لكل صوتٍ نقديّ إنساني يقف في وجه الفاشية التي تتعامل مع الآخر كهمجي ومتخلّف
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ندّد وزير الزراعة ذاته لولوبريجيدا بتصريح المؤرخ والأكاديمي توماسو مونتاناري الذي شبّه وضع إيطاليا بوضع المجر، لأنّها "نموذج استبدادي"، من آثار الحمض النووي لميلوني. يقول مونتاناري إنّ إيطاليا هي الديمقراطية الأوروبية الوحيدة التي تضم حكومتها حزبًا فاشيًا. لا بل يصعّد من الأمر حين يطالب الاتحاد الأوروبي أنّ يعتبر إيطاليا مكانًا خطرًا.
هكذا آلت الأمور الثقافية بشكل عام في إيطاليا، وهو ما يعبّر عنه بالنسقية الثقافية المترسّخة في الجسد الثقافي البشري، حيث لم تتخلّص إيطاليا - رغم عدها من دول العالم الأول وفي مصاف الدول من رواسبها الثقافيّة - من عزل ثقافي ومحاصرة ثقافيّة وارتداء كمامة ثقافية لكل صوتٍ نقديّ إنساني يقف في وجه الفاشية التي تتعامل مع الآخر كهمجي ومتخلّف لا يرقى لمستوى الحضارة في إيطاليا.
لم تتخلّص البشرية جمعاء من أنساقها الثقافيّة نتيجة لعوامل عدة أبرزها الخوف والحنين إلى الماضي التليد والبكاء على أطلال الفاشية والنازيّة.
(خاص "عروبة 22")