كلما مرّ يوم، يزداد العالم جنوناً في غياب مرجعيّة تضبط المآسي التي تشهدها الكرة الأرضية وتستطيع وضع حدّ لها. يحتار المرء من أن يبدأ في تعداد المآسي. هل يبدأ من حرب غزّة حيث استغلّ اليمين الإسرائيلي «طوفان الأقصى» وغياب أي أفق سياسي لدى حركة «حماس»، لشنّ «حرب إبادة» على القطاع وأهله والسعي في الوقت ذاته إلى تنفيذ هدف مستحيل يتمثّل في تصفية القضيّة الفلسطينية؟
هل يبدأ المرء من الحرب الأوكرانيّة التي أراد الرئيس الروسي من خلالها استعادة أمجاد لا وجود لها، هي أمجاد الاتحاد السوفياتي؟
هل يبدأ من حرب السودان حيث انقلب العسكر، على المجتمع المدني الذي رفض بشجاعة ليس بعدها شجاعة نظام عمر حسن البشير الذي جلس على قلب السودانيين 30 عاما؟
هل يبدأ بصعود اليمين المتطرف في أوروبا؟
هل يبدأ بما فعلته إيران في العراق وسورية ولبنان واليمن، حيث يسود منطق الميليشيات المذهبية التي تصدُر التعليمات إليها من طهران، وهي ميليشيات لا هدف لها سوى تدمير هذا البلد العربي أو ذاك والمتاجرة بالقضية الفلسطينيّة والقدس إلى أبعد حدود؟
يتوج هذا الجنون انحصار المنافسة في معركة الرئاسة الأميركيّة بين جو بايدن الساعي إلى ولاية جديدة على الرغم من تجاوزه الثمانين من العمر من جهة ودونالد ترامب من جهة أخرى.
أمضى بايدن ما يزيد على ثلاث سنوات في البيت الأبيض من دون إظهار أي صفات قياديّة.
لا يزال رئيساً حائراً بدأ عهده برفع الحوثيين من لائحة الإرهاب الأميركيّة غير مدرك أبعاد ذلك. لم يدرك منذ البداية مدى سيطرة «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران على الحوثيين وماذا يعني وجود موطئ قدم لإيران في شبه الجزيرة العربيّة مع إطلالة على البحر الأحمر.
أمّا ترامب، الذي يقترب بدوره من الثمانين، فيتبين في كلّ يوم مدى خطورته على مستقبل أميركا، خصوصاً في ضوء موقفه من الحرب الأوكرانيّة مع ما يستتبع ذلك من غياب أي تقدير لمعنى سقوط دولة أوروبيّة ومحورية مهمّة، مثل أوكرانيا، في يد روسيا.
يستحيل فهم كيف أن قوّة عظمى مثل الولايات المتحدة صارت عاجزة عن إنتاج قيادات سياسيّة جديدة تمتلك فهما أفضل للعالم. لا وجود لأي إستراتيجية أميركيّة لكيفية التعاطي مع مخاطر مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وخطورة شخص مثل فلاديمير بوتين.
لا وجود لأي فهم أميركي في العمق لموقع الصين في هذا العالم ولقدرة بكين على استغلال أي فرصة من أجل تسجيل نقاط على أميركا.
على الرغم من كلّ ما قيل ويقال عن استياء صيني من زيارة الرئيس الروسي لبيونغ يانغ والاتفاقات التي عقدها مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، لاتزال الصين مهتمة، في ما يبدو، باستمرار الحرب الأوكرانية كون ذلك يجعل روسيا أكثر اعتماداً عليها.
لا يمكن لكوريا الشمالية الخروج من تحت المظلة الصينيّة بأي شكل. من هذا المنطلق، من المناسب للصين وجود تعاون عسكري روسي - كوري شمالي يغنيها عن الاضطرار إلى مساعدة روسيا، عبر تزويدها السلاح، بشكل مباشر.
المهمّ بالنسبة إلى الصين مزيد من الغرق الروسي في الوحول الأوكرانيّة كون ذلك يخدم مصالحها في المدى الطويل ويجعل هذه الدولة التي تمتلك كميات كبيرة من المعادن الثمينة في حضنها.
من الواضح في هذا العالم المصاب بالجنون أنّ بوتين لم يحسن التصرّف في أي مكان من العالم. نراه في هذه الأيام مضطراً إلى العثور على مصدر تسليح من دولة منبوذة هي كوريا الشماليّة ومن دولة أخرى هي إيران في هرب دائم من أزمتها الداخلية إلى خارج حدودها...
لن تمضي أشهر إلّا ويتبلور المشهد العالمي الجديد، خصوصاً في حال فوز ترامب في الانتخابات الرئاسيّة الأميركية وقبل ذلك فوز اليمين الفرنسي في الانتخابات النيابيّة.
ثمّة سؤال سيطرح نفسه بحدة في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يتعلّق بمستقبل العلاقات الأميركية - الأوروبيّة ودور حلف شمال الأطلسي الذي يكنّ الرئيس السابق والمرشح الحالي للرئاسة الأميركية ازدراء كبيراً له؟
يحدث ذلك كلّه في عالم لا يمتلك أي قيادات تتمتع برؤية ثاقبة من أي نوع. اختار بوتين، بعدما قرّر غزو أوكرانيا، أخذ روسيا إلى وضع أسوأ مما كانت عليه في عهد الاتحاد السوفياتي.
ظهر أن الرجل لا يعرف شيئا عن العالم الخارجي. فضّل أن يكون حليفاً لنظام مريض مثل نظام كوريا الشماليّة على أن يكون على علاقة جيدة مع أوروبا وأميركا.
فضّل أن يكون حليفاً لإيران والنظام السوري في الحرب التي تستهدف الشعب السوري منذ مارس من العام 2011.
عندما يجنّ العالم يصير طبيعياً أن تتصرّف إيران في لبنان بالطريقة التي تتصرف بها مستخدمة «حزب الله»، الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري»، لفتح جبهة الجنوب مع إسرائيل، كما لو أن إسرائيل جمعيّة خيريّة.
لم يعد مستغرباً ربط مصير لبنان بحرب غزّة في ضوء سقوط المنطق في معمعة الجنون التي تسود العالم وانعكاساتها على منطقتنا الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي!.
("الراي") الكويتية