تقدير موقف

الإشاعة البريطانية و"الحرب الوجودية"!

صحيح أنّ واشنطن تُمسك بدفّة إدارة الأزمات الإقليمية والدولية، وخصوصًا حماية إسرائيل وضمان تفوّقها على محيطها العربي والاقليمي كما بيّنت وقائع العدوان على غزّة، لكنّ إنضاج وحسم تحوّل مفصلي ما، غالبًا ما يستولده تدخل بريطانيا التي لطالما لعبت دور كاسحة الألغام أمام أساطيل الغزو والاحتلال كما حصل في العراق، وبعده في ليبيا واليوم في لبنان، فضلًا عن دورها الأقل ضجيجًا من الأمريكيين في العدوان على غزّة.

الإشاعة البريطانية و

ولعلّ القنبلة الأمنية الإعلامية التي فجّرتها "دايلي تلغراف" البريطانية في مطار رفيق الحريري، تشبه الضربة الجوية الأولى الممهّدة لنشوب الحرب. ولمملكة الضباب تاريخ معروف في الحروب النفسيّة الممهّدة للحروب خصوصًا في فبركة الإشاعات بوصفها أحد أفتك أسلحة الحروب النفسية.

الهدف تصديع الجبهة الداخلية اللبنانية المنقسمة أصلًا تمهيدًا لتفجير تناقضاتها في "ساعة الصفر"

وإلى الإشاعة البريطانية المسمومة حول مطار بيروت، ثمّة نموذج حيّ على ابتكار بريطانيا لإشاعة قاتلة أطلقها وزير خارجيتها ويليام هيغ عام 2011 عندما صرّح "القذّافي هرب إلى فنزويلا" والتي دحضها القذّافي بخروجه بعد 24 ساعة، لكن وخلال هذه الـ24 ساعة فعلت الإشاعة البريطانية فعلها في الجبهة الداخلية الليبية وبقية القصّة معروفة.

ما توخّاه طباخو التقرير البريطاني لبنانيًا، متناسل ممّا سبق وتوخوه ليبيًا. فالهدف تصديع الجبهة الداخلية اللبنانية المنقسمة أصلًا، تمهيدًا لتفجير تناقضاتها في "ساعة الصفر". ولم يعُد سرًّا أنّ غاية تقرير الـ"تلغراف" إطلاق الحرب النفسية المحمومة، توازيًا مع الإشاعات الكاذبة حول طلب سفارات أجنبية من رعاياها مغادرة لبنان، وهي الإشاعات التي كذّبتها السفارات المعنّية إيّاها، ما دفع الـ"تلغراف" لإلغاء تقريرها المسموم عبر تعديله، دون أن تلغي مفاعيله من ذهن الناس رغم الجولة التي نظّمتها الحكومة اللبنانية للإعلاميين والدبلوماسيين العرب والأجانب.

تقرير الـ"تلغراف" إذن، نُشر في سياق التهويل والحرب النفسية المحمومة على لبنان انطلاقًا من دور جبهته الجنوبية في مساندة غزّة، ويهدف للتشويش على الحرب النفسية الاستباقية التي أحدثها فيلما "الهدهد" و"الإحداثيات" لمواقع استراتيجية حسّاسة في الكيان، وتخلّلهما خطاب لزعيم "حزب الله" أكد فيه أنّ "المقاومة في حالة الحرب الشاملة على لبنان ستردّ بدون ضوابط أو قواعد أو أسقف.. وعلى العدو أن ينتظرنا برًا وبحرًا وجوًا". حرب نفسية فعلت فعلها في قادة الكيان الصهيوني، وقد أرفق نصرالله صلياته النفسية الردعية بتحذير للحكومة القبرصية من مغبة استخدام قواعدها للعدوان على لبنان.

وقد أحدث تحذير نصرالله لقبرص ردود فعل اليونان والاتحاد الاوروبي، لكن الردّ العملي أتى من البريطانيين لكون تحذير نصرالله جاء على خلفية دور القواعد البريطانية الاستخباري والتجسّسي على غزّة وأيضًا على لبنان، حيث يُتداول "معلومات" تقول إنّ الاغتيالات بـ"المُسيّرات" لقيادات من "الحزب وحماس والجماعة الاسلإمية" تستند استخباريًا على ما يقدّمه البريطانيون لـ"غرفة العمليات الإسرائيلية"، فضلًا عن أنّ جيش الاحتلال سبق ونفّذ في قبرص مناورتين تحاكيان حربًا على لبنان.

لا يمكن لإسرائيل شنّ حرب على لبنان دون مباركة وانخراط الولايات المتحدة فيها

ما رامه نصرالله هو إبلاغ من يعنيه الأمر في المنطقة والعالم بأنّ جغرافية الحرب إذا ما اندلعت لن تنحصر في تضاريس لبنان، ولكنها ستتسع لتشمل المنطقة، وضمنًا البحر الأبيض المتوسط الذي لوّح نصرالله بإغلاقه تأسيًا بإغلاق "أنصار الله الحوثيين" لباب المندب والبحرين الأحمر والعربي، وهو الإغلاق الذي إذا ما حصل، سيأخذ الحرب إلى مكان آخر تمامًا.

وقد عزّز نصرالله تهديداته "المتوسطيّة" بإعلانه الحصول على "سلاح جديد" يبدو شديد الترابط مع ما سبق وأشرنا إليه في مقال "داعش.. من كروكس إلى عوكر" خصوصًا لناحية إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن استعداده لتزويد دول وجماعات بأسلحة نوعية ذات مديات بعيدة. وغاية بوتين في ذلك الرد على رفع تحفظات الغرب الأمريكي والأوروبي عن قصف أوكرانيا للدواخل الروسية بأسلحتهم كما حصل مؤخرًا في "سيفاستوبول" التي قُصفت بخمسة صواريخ تكتيكية عملياتية مزوّدة برؤوس عنقودية من طراز "أتاكامز"، ما دفع القيادة الروسية للتوعّد بالرد.

أما إيرانيًا، فقد كشف مصدر رفيع في "المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني" أنّ الاتصالات الأمنية مع واشنطن بلغت ذروتها.. وأنهما أعادا تشغيل "الخط الأحمر" المقفل منذ اغتيال قاسم سليماني، وبحسب "الجريدة الكويتية" فقد أبلغت طهران واشنطن "أنّ الحرب المحتملة على لبنان ستكون مختلفة عن تلك الدائرة في غزّة، وأنّ إيران ستقدّم كل ما لديها لحلفائها.. وأنّ المواجهة لن تقتصر على إسرائيل وحزب الله"، وقد سارعت فصائل "المقاومة الإسلامية العراقية" المنخرطة في جبهة إسناد غزّة إلى توعّد إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة والعراق في حال شنّوا حربًا على "حزب الله" ولبنان.

إيران وأذرعها في المنطقة يرون أنّهم أمام حرب وجودية بالقدر نفسه الذي ترى إسرائيل نفسها أمام تهديد وجودي

لا داع لتفصيل الموقف الأمريكي من الحرب الإسرائيلية المرجّحة على لبنان، فقد بيّن العدوان على غزّة حجم انخراط الولايات المتحدة ورئيسها جو بايدن الذي ورغم تلاعب بنيامين نتنياهو به وبمبادرته لوقف إطلاق النار يبذل قصارى جهده لحماية "إسرائيل" حتى من نفسها، ما يعني أنّه لا يمكن لإسرائيل شنّ حرب على لبنان دون مباركة وانخراط الولايات المتحدة فيها، وقد أظهرت وقائع العدوان على غزّة أنّ "اسرائيل أشبه بمريض الكورونا الذي لا يستطيع البقاء بعيدًا عن جهاز التنفس".

بدون شك الحرب على لبنان تختلف من الحرب على غزّة، لكنّها في حال نشوبها فإنها تستهدف بالضرورة اجتثاث "حزب الله"، لتصفير النفوذ الايراني الذي يشكل "حزب الله" عموده الفقري. بهذا المعنى فإنّ نصرالله وإيران وأذرعها في المنطقة يرون أنّهم أمام حرب وجودية لهم، بالقدر نفسه الذي ترى "إسرائيل" نفسها ومنذ "طوفان الأقصى" أنّها أمام تهديد وجودي لها.

لكن من قال إنّ التهديد الوجودي حكر على ضلعَي الحرب المرتقبة، ومن قال إنّ الانخراط الأمريكي الأوروبي الهندي من أوكرانيا إلى إسرائيل، سوف لن يستدعي انخراطًا مماثلًا من روسيا وربّما الصين؟!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن