الحالة المزرية لبايدن وصوته المنخفض وكلماته غير المفهومة جاءت تمامًا على عكس ما تنبأ به المحللون والمعلقون الأمريكيون قبل المناظرة، والذين توقعوا أن يخرج بايدن في أفضل صورة ممكنة من ناحية الهيئة العامة وترتيب الأفكار وقوة الأداء، وأنه سوف يتدرب على ذلك بعد أن اعتكف مع مساعديه لأيام طويلة في منتجع كامب ديفيد الشهير استعدادًا للحدث. بل إنّ بعض المتطرفين من أنصار ترامب طالبوا بعمل اختبار تعاطي منشطات لبايدن خشية أن يتناول الكثير منها قبل المناظرة لكي يتمكن من الوقوف صامدًا على قدميه لمدة تسعين دقيقة كاملة من دون أي عون من مساعدين أو أفراد أسرته.
وسعى الديمقراطيون إلى خلق انطباع قبل المناظرة أنّ أداءه سيكون أفضل مما كان عليه الحال أثناء إلقاءه لخطاب حال الجمهورية السنوي أمام كل أعضاء الكونجرس الأمريكي في 7 مارس/آذار والذي بدا فيه حماسيًا وتحدث بطلاقة وقوة على مدى نحو ساعة وعشر دقائق. ولكن كل هذه التوقعات انهارت مع الثواني الأولى من بدء المناظرة، وخرج ترامب مع أنصاره ليحتفل كما توقع.
ما سيرسخ في ذهن الناخبين هو حالة الضعف والشرود التي بدا عليها بايدن مما قد يزيد من الضغوط داخل الحزب الديمقراطي
مشكلة بايدن لا تكمن بالتأكيد في أنه يبلغ من العمر 81 عامًا، خاصة وأنّ خصمه الجمهوري ترامب لا يصغره سوى بثلاث سنوات، والمتنافسان عمومًا هما الأكثر تقدمًا في العمر في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ولكنه ببساطة الفارق بين سوء الحالة الصحية والوهن وشرود الذهن وغياب الكاريزما التي ارتبطت ببايدن، وحضور طاغٍ وحديث طلق وحالة ظاهرة من الصحة تعمل لصالح ترامب وتجعله يبدو كمصارع في حلبة.
ومما أثار الدهشة أنّ ترامب اختار، وبشكل استثنائي، أن يكون مهذبًا وألا يفترس الرجل العجوز، لكن اللحظة الكارثية التي كان يخشاها أنصار الحزب الديمقراطي تحققت عندما توقف بادين فجأة عن الكلام ونسي ما كان يقوله وبدا في حالة ارتباك وصمت لثوان طويلة حتى خرج بجملة لا علاقة لها مطلقًا بما كان قد بدأ به الحديث.
ولكنه تصرف بشكل "رئاسي" في المناظرة، وانصاع لنصائح خبراء حملته في التركيز على انتقاد سياسات بايدن الاقتصادية والتساهل مع الهجرة وتراجع دور الولايات المتحدة في العالم، بدلًا من القسوة على الرئيس الأمريكي والتركيز على عدم أهليته لتولي أهم منصب في الولايات المتحدة والعالم بسبب سوء حالته الذهنية والصحية.
لم يفت ترامب بالطبع أن ينتقد قيام بايدن بمنع شحنة يتيمة من القنابل الثقيلة الغبية للحليفة إسرائيل التي كان يجب أن يسمح لها بـ"إنهاء مهمتها" من دون قيود، قائلًا إنّ الرئيس الحالي "تصرّف وكأنه فلسطيني". ردّ بايدن سريعًا أنه أمد إسرائيل بكل ما تحتاج من سلاح وأنه استنفر الطائرات الأمريكية لحماية سمائها من تساقط الصواريخ الإيرانية وأنه يؤيد القضاء على "حماس".
ورغم أنّ بايدن هاجم ترامب بشكل شخصي وذكّره بأنه "مجرم مدان" في القضية المعروفة بـ"أموال شراء الصمت" في ولاية نيويورك، وأنه "مارس الجنس مع ممثلة إباحية،" وردّ عليه ترامب بتذكيره أنّ نجله (هانتر بايدن) هو بدوره مجرم مدان، وأنه قد ينتهي إلى المصير نفسه لو تمت محاكمته على تهم الفساد التي يزعم أنه تورط فيها بالاتفاق مع أفراد أسرته، رغم هذه الملاسنة الشخصية، فإنّ ما سيرسخ في ذهن الناخبين الأمريكيين هو حالة الضعف والشرود التي بدا عليها بايدن مما قد يزيد من الضغوط داخل الحزب الديمقراطي نفسه من أجل العثور على مرشح آخر لمنافسة ترامب عندما ينعقد المؤتمر العام للحزب الديمقراطي في 19 أغسطس/آب المقبل.
نسبة معتبرة من الأمريكيين تتمنى وجود مرشح آخر لا يكون في حالة بايدن أو "مجرم مدان" كما هو حال ترامب
ما يزال أمام الانتخابات الرئاسية أربعة شهور كاملة، وهذا وقت طويل جدًا بالمعايير الأمريكية، وسيبقى الباب مفتوحًا أمام الكثير من المفاجأت في هذا السباق الصعب، إلى جانب مناظرة ثانية ستنعقد في العاشر من سبتمبر/أيلول المقبل لو بقي الأمر على حاله في أعقاب مؤتمرات الحزبين الجمهوري والديمقراطي التي سيتم خلالها اعتماد مرشح الرئاسة عن كل حزب.
كما يرى بعض المراقبين الأمريكيين أنّ الفرصة قد تكون أفضل الآن لبروز مرشح ثالث، مثل المرشح المستقل روبرت أف كينيدي رغم كل ما يحيط به من جدل، حيث أنّ استطلاعات الرأي تفيد بأنّ نسبة معتبرة من الأمريكيين، تبلغ نحو سبعين في المائة، غير راضين عن كلا المرشحين، وكانت تتمنى وجود مرشح آخر لا يكون في الحالة الصحية الذهنية والصحية الصعبة التي ظهر بها بايدن، أو مثير للجدل و"مجرم مدان" له سجل من التصريحات العنصرية كما هو حال ترامب. ولكن حتى إشعار آخر، فالكفة الآن تميل بوضوح لصالح ترامب المصارع بعد أن هزم بايدن بالضربة القاضية في مناظرة "سي أن أن".
(خاص "عروبة 22")