بصمات

ظلام العرب.. من البيوت إلى العقول!

مع هبوب الرياح الساخنة لفصل الصيف على بلاد العرب، أصبح انقطاع التيار الكهربائي حديث الساعة في أكثر من مدينة عربية، فمن القاهرة وبيروت إلى بغداد ودمشق والخرطوم، مرورًا بالمدن اليمنية والليبية والسودانية، وصولًا بالقطع العقابي للكهرباء في قطاع غزّة، يبدو أنّ الكثيرين يغرقون في ليل دامس، يتخبطون في الظلام وهم يبحثون عن بعض أساسيات الحياة، يكافحون العمر كله حتى يتحصلوا على بعضها بشق الأنفس.

ظلام العرب.. من البيوت إلى العقول!

فتح ملف قطع التيار الكهربائي نافذة للتأمل في حال العرب الذي يغلب عليه السواد.

الكهرباء من حقوق الحياة الأساسية في الدولة الحديثة، لا يمكن الحديث عن أي نهضة أو حياة كريمة في أدنى درجاتها دون توفير الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، لكن ما هو أساسي في العديد من دول العالم، بات خيالًا تسرح فيه عقول العرب انتظارًا لليوم الذي يتحقق فيه هذا الحلم البسيط، فانقطاع الكهرباء بات العنوان الأبرز للظلم الذي يتعرّض له المواطن العربي من حكومات أو أشباه حكومات لم تعد تضعه على سلّم أولوياتها وسط صراعات على السلطة أو الانفراد بها، لأنّ قطع الكهرباء لساعات طويلة هو انتهاك صريح للكرامة الإنسانية للمواطن العربي.

لهيب الصيف كشف عن الفساد المستشري في العديد من الدول العربية التي فشلت في معالجة أزمة الكهرباء المزمنة

انقطاع الكهرباء يبدو لافتة يمكن رفعها للحديث عن أحوال العرب في العام 2024، فالمفارقة أنّ الظلام الدامس لا يعلن انتصاره إلا في عواصم العرب التي كانت يومًا مركزًا للتنوير والأنوار العربية، فالقاهرة وبيروت وبغداد ودمشق، عواصم الفعل الثقافي والسياسي والفني على مدار عقود في العصر الحديث، باتت مظلمة فعليًا ومعنويًا.

المدن التي كانت رمز الاستنارة المبشّرة بميلاد جديد تبدو غارقة في الوحل، تعاني سكرات الموت السريري بأمراض فشل التجارب الوطنية، والانهيارات الاقتصادية، وهيمنة الطائفية البغيضة، وانتشار سوس الفساد الذي نخر في أساس الدولة ومؤسساتها فأقعدها. هنا يبدو انقطاع الكهرباء معبّرًا أكثر عن حال العرب؛ حاضرهم ومستقبلهم.

أي مستقبل ونحن نسمع عن طلبة مصريين في مرحلة الثانوية العامة يبحثون عن نور العلم تحت مصابيح الشوارع أو المقاهي. في بيروت؛ يرتبط انقطاع الكهرباء طرديًا مع زيادة معدل التفسخ الطائفي. هل يُعقل أنّ العراق الذي يعوم على ثروة نفطية هائلة يعاني من انقطاع الكهرباء معظم ساعات النهار؟. اليمن لم يعد سعيدًا وأهله بين تفسخ دولة وحرب أهلية لتكون النتيجة الطبيعية غياب الكهرباء.

لهيب الصيف الساخن كشف عن الفساد المستشري في العديد من الدول العربية التي فشلت في معالجة أزمة الكهرباء المزمنة، كعنوان لفشل أكبر يهدد وجود هذه المجتمعات التي لا تبتعد كثيرًا عن خانة الدول الفاشلة.

يبدو الظلام الذي يضرب العديد من البيوت العربية معبّرًا أكثر عن حالة من الظلامية تضرب عقول قطاعات واسعة من أبناء العرب هذه الأيام، فهذا من ذاك، والصور للظلام الدامس في الشوارع لا تفعل أكثر من تلخيص الصورة وتكثفها بشكل واضح للعيان، فلا مهرب هنا من مواجهة حقائق الأمور التي تكشف عن فشل مزمن تتحمله الحكومات التي لا تعمل لصالح شعوبها ولا تهتم بمصائر الأوطان، فتحوّلت إلى جماعات مصالح تنهب بلا حياء مقدرات الشعوب، فنحن أمام رغبة حكومات أو ميليشيات أو جماعات حاكمة في توصيل رسالة تهديد للشعوب، إما الإذعان أو نحرمكم من الحق في الكهرباء.

إنتاج الطاقة الشمسية مشروع عروبي بامتياز يقسّم الفوائد على شعوب المنطقة ويقيم وحدة على أساس المصلحة

التأمل في مسألة انقطاع التيار الكهربائي كاشف عن حالنا كعرب في القرن الواحد والعشرين، شعوب ضائعة تائهة محرومة من أبسط حقوقها في الحياة، وحكومات لا تحكم إلا من منطلق النهب والإفقار، كان لمشروع مثل توليد الكهرباء أن يكون أداة ربط بين الشعوب العربية، في إطار التكامل في ما بينها، يمكن للعرب ضخ الأموال في مجال إنتاج الطاقة الشمسية لجعلها ذات مردود اقتصادي أكبر، خاصة أنّ الدول العربية نموذجية -بحكم الموقع - في توليدها، هذا استثمار أساسي في تنوّع محفظة الطاقة.

وهو مشروع عروبي بامتياز يجمع ولا يفرّق، ويقسّم الفوائد والعائد على شعوب المنطقة، أي يقيم وحدة على أساس المصلحة، لكن لأنّ الحكومات منفصلة عن شعوبها، والظلام غادر البيوت وسكن العقول لا نجد حديثًا في هذا الاتجاه، كفرصة أخرى نفوّتها في انتظار أن يأتي لنا من الخارج من يبيع لنا ما نملك.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن