شهدت القاهرة الأسبوع الماضي؛ فاعليتين على درجة كبيرة من الأهمية، الأولى قام بتنظيمها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية بعنوان «الصراعات في القرن الإفريقي.. وتداعياتها على الأمن الإقليمي والمصري». والثانية اطلاق النسخة الرابعة من «منتدى أسوان للسلام والتنمية المستدامة»، الذي يقوم على إعداده بجهد متميز «مركز القاهرة لحل النزاعات وحفظ وبناء السلام» التابع لوزارة الخارجية المصرية.
أكثر ما يلفت الانتباه وتشترك فيه كلتا الفاعليتين، هو حجم الحضور والاهتمام الكبير الذي برز على نحو لافت من المشاركين في الحدثين، ومثل الحضور الإفريقي بالأخص النسبة الغالبة، لكنه لم يخل أيضا من اهتمام دولي واضح، عبر عن نفسه بالحرص على مشاركة ممثلين على مستوى رفيع من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وعدد من الدول الآسيوية الكبيرة. اللافت أن معظم هؤلاء الضيوف، نقل رسالة بالغة الأهمية مفادها أن الجهد المصري في الاهتمام بمنطقة القرن الإفريقي، وإلقاء الضوء على التحديات التي تواجهها، استدعى على نحو جاد إنصاتا وتفاعلا من دول العالم ذات الارتباط معها بمصالح عدة.
في فبراير 2023؛ تم اختيار مركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام لتولي رئاسة شبكة الاتحاد الإفريقي لمراكز الأبحاث من أجل السلام. جاء هذا الاختيار تقديرا لإسهامات المركز القيمة في مختلف مجالات السلم والأمن في إفريقيا كمركز تميز للاتحاد الإفريقي، وبما يعد امتدادا لدور مصر الرائد في تعزيز جهود السلم والأمن والاستقرار دوليا وإقليميا، على أن تكون تلك الشبكة بمثابة منصة جامعة لكل مراكز الابحاث المعنية بالسلم والأمن في القارة، وستعمل على مد الاتحاد الإفريقي بالدراسات الجادة التي تسهم في إثراء مداولاته، وفي تعزيز قدراته على التعامل مع الطبيعة المعقدة والمتداخلة لتحديات السلم والأمن في القارة. هذا الاختيار عكس حجم الثقة التي توليها الدول الأعضاء بالاتحاد، للقدرات المصرية في تحقيق أهداف تلك الشبكة من حيث التركيز على سد الفجوة بين العمل البحثي والسياسات، حيث تعتبر من الأولويات الرئيسية التي أكدتها الرئاسة المصرية للاتحاد الإفريقي (2019 ـ 2021).
في هذا العام وخلال الفاعليات المشار إليها؛ حرص المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية على إلقاء الضوء على أن أكثر التحديات إلحاحا التي تواجه عالمنا اليوم هي الصراعات في منطقة القرن الإفريقي، التي باتت مؤخرا مسرحا مهما للتجاذبات الإقليمية والدولية، نظرا لموقعها الجغرافي المتميز حيث تطل على مضيق باب المندب والبحر الأحمر، فيما تمتلك ثروات طبيعية وفيرة من المعادن والنفط والغاز الطبيعي، مع قوة بشرية هائلة ومتنوعة ثقافيا واثنيا. لكن المحصلة للأسف الشديد لا تعكس هذا الثراء، فالقرن الإفريقي لا تزال واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها تمزقا بالصراعات. إذ تعاني المنطقة العديد من الأزمات المتشابكة، بما في ذلك؛ الصراعات المسلحة، ما يتسبب في معاناة إنسانية هائلة ويعيق في الوقت نفسه التنمية التي هي الحلم المفقود لشعوب هذه المنطقة. لهذا حرصت هذه الحلقات النقاشية المعمقة، على تقديم فهم أكبر وتفسير دقيق للصراعات المختلفة التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي، سواء صراعات تتسم بطابع داخلي، ولكن في حقيقة الأمر لديها أبعادها الإقليمية والدولية، أو تلك العابرة للحدود الوطنية. كذلك تأثيراتها على الأمن والسلم الإقليمي، للخروج برؤى حيال تلك الصراعات وسبل معالجتها، والآليات المبكرة للحيلولة دون ظهور مثل تلك الصراعات مستقبلا.
وقد كان مهما الاشارة إلى بعض النماذج المركبة من التحديات، التي تسببت في الوصول إلى هذا الحصاد المأساوي، منها الصراع الإثني الاثيوبي الممتد الذي لم يقف عند حدود الداخل الإثيوبي، بل امتد بشكل غير مسبوق ليصل إلى السودان في صراع لا يقل خطورة وتكلفة مما تشهده إثيوبيا. كما نجد أن تكلفة الصراع الدائر في السودان لا يقتصر على الجانب السوداني؛ بل يحمل في أبعاده ضغوطات أمنية على دول الجوار اللصيق، وفي مقدمتها مصر لتأمين حدودها الجنوبية، وما تحملته أيضا مصر من أعباء نتيجة استضافتها ملايين من اللاجئين الفارين من ويلات الحرب. فبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، تشير مؤخرا التقديرات إلى أن عدد اللاجئين في السودان قد وصل إلى أكثر من 1.8 مليون شخص في أبريل 2024. وهناك تقديرات أخرى ترتفع بهذا الرقم إلى مستويات صادمة، في حال إضافة أعداد النازحين بالداخل السوداني والمنتقلين إلى دول الجوار من خلال الاستضافة، أو لم شمل الأسر المتضررة من ويلات الصراع المسلح.
في مؤتمر المركز المصري وأيضا في منتدى أسوان، أكد أكثر من مشارك من الجنسيات الإفريقية أن منطقة القرن الإفريقي تشهد الآن حالة من التفاعلات غير التعاونية، وهو ما انعكس بوضوح في التعدي على سيادة الدول مثلما شهدته دولة الصومال بعدما اتجهت إثيوبيا لتوقيع مذكرة تفاهم مع حكومة أرض الصومال، في سبيل مساعيها للحصول على منفذ بحري، بما ترتب عليه من اضطرابات في العلاقات بين إثيوبيا والدول المطلة على البحر الأحمر. وارتباطا بمعادلة البحر الأحمر فقد بلغ الأمر ذروته في التصعيد الجاري منذ نهاية عام 2023 وبدايات عام 2024، بسبب الاستهداف العسكري للسفن التجارية الذي حمل تداعيات سلبية على إمدادات التجارة الدولية ومسارات خطوط الملاحة، وكان له تأثيراته على تكلفة النقل للسلع، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على خطوط النقل الدولي للسلع، خاصة تلك الرئيسة التي تحظى بثقة وأهمية لجميع دول العالم وشركات الشحن، وهي قناة السويس.
القضايا والنقاشات تناولت ملفات أخرى لا تقل أهمية، مثل الفقر والجوع ومصاعب التحدي المناخي، فضلا عن التهديدات الإرهابية المسلحة التي عادت لتتنامى من جديد على خلفية هذا المشهد المركب، الذي أحسنت القاهرة صنعا في وضعه تحت دائرة أضواء الاهتمام وتأكيد ضرورة العمل الجماعي لمجابهة تحدياته الهائلة.
("الأهرام") المصرية