من العالم

فرنسا "تقاوم" صعود اليمين: صراع الهوية والديمقراطية

باريس - مزن مرشد

المشاركة

مخاوف كبيرة رافقت الأوساط المهاجرة في فرنسا خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لا سيّما بعد تقدّم اليمين المتشدّد بقيادة مارلين لوبين في الجولة الأولى من الانتخابات.

فرنسا

نجحت مارلين لوبين في تحويل الحزب من حركة متطرفة إلى قوة سياسية رئيسية تجذب قطاعات واسعة من الناخبين الفرنسيين بخطابها الشعبوي وخاصة المتوجّه ضد الهجرة والمهاجرين، وللمفارقة فإنّ حزبها يضم عددًا لا بأس به من الفرنسيين ذوي الأصول المهاجرة، بعضهم من الجيل الأول أي أنه وصل إلى فرنسا شابًا مهاجرًا.

وفي إطار استطلاع "عروبة 22" آراء عدد من الفرنسيين المهاجرين، يتبيّن أنه بالنسبة للمهاجرين المستقرين قانونيًا والذين حسّنوا أوضاعهم المادية ويشتغلون في شركات عالمية وأخرى كبرى، يكون خطاب اليمين المتطرّف "مجرد كلام انتخابي". أما الآخرون الذين ما يزالون يعملون جاهدين لإيجاد عقود عمل دائمة، أو ما يزالون يبحثون عن فرص عمل ويعانون من عدم الاستقرار القانوني فإنّ الأمر بات يهددهم بالفعل.

وتقول نادية بن عمر، الناشطة الحقوقية ومديرة منظمة "حقوق المهاجرين في فرنسا": تصاعد اليمين يؤثر بشكل مباشر على حياة المهاجرين اليومية، وكان الخوف أن نشهد تشديدًا في قوانين الهجرة وإجراءات أكثر صرامة تستهدف المهاجرين غير الشرعيين، مما سيزيد من معاناتهم ويعزز مناخ الخوف والتمييز.

كيف هُزمت مارين لوبين؟

بُعيد صدور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات، أصبح اليمين المتطرّف على بُعد خطوة من استلام السلطة، لكن التصدي لهذه النتائج كان قد بدأ بالفعل منذ أن أعلن الرئيس ايمانويل ماكرون عن الانتخابات التشريعية المبكرة، فحاولت الحكومة الفرنسية بشكل جدي دراسة الاستراتيجيات لقطع الطريق أمام التجمع الوطني المتطرّف، لتجنّب الأسوأ بالنسبة لفرنسا، فتحالفت قوى اليسار التي طالما كانت متنافسة وانتقادية فيما بينها، وشكلت "الجبهة الشعبية الجديدة" فجمعت بين الاشتراكيين والشيوعيين وعلماء البيئة (حزب الخضر) وحزب فرنسا الأبية، وبالرغم من الاختلافات الرئيسية في أيديولوجيتهم ونهجهم، لكنهم قرروا تشكيل كتلة لإبعاد أقصى اليمين عن الحكومة.

وللمفارقة يوجد داخل اليمين المتطرّف العديد من السياسيين الذين لديهم آباء من أصول مهاجرة، وبالتالي هم أبناء مهاجرين، أو ممن حصلوا هم أنفسهم على الجنسية الفرنسية بعد الهجرة إلى فرنسا ومع ذلك هم في جبهة لوبين وضمن صفوف حزبها ومن أشد المؤيدين لسياسات تقييد الهجرة والتضييق على المهاجرين.

يقول الدكتور جان - بول كليمان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس: صعود اليمين في فرنسا يعكس ردود فعل الناخبين تجاه قضايا مثل الهجرة والأمن والهوية الوطنية. هذه الأحزاب تستغل المخاوف الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز شعبيتها، مستفيدة من الشعور بالقلق وعدم الرضا عن الوضع القائم.

تغييرات في سياسة الهجرة

بالفعل، بدأت حكومة فرنسا تحت ضغط الأحزاب اليمينية في مراجعة سياسات الهجرة الحالية، ومن المُتوقع أن تتضمن التعديلات الجديدة تشديد شروط الحصول على الإقامة والجنسية، وتكثيف عمليات الترحيل للمهاجرين غير الشرعيين، وزيادة الرقابة على الحدود.

يقول الأستاذ لوكاس دوبري، المتخصص في شؤون الهجرة بجامعة ليون: "الاتجاه نحو تشديد سياسات الهجرة ليس جديدًا، لكن مع صعود اليمين أصبح هذا الاتجاه أكثر وضوحًا وحزمًا. الحكومات تسعى لكسب تأييد الناخبين اليمينيين من خلال اتخاذ إجراءات صارمة، مما يعكس تغيّرًا في المناخ السياسي والاجتماعي في فرنسا.

المجتمع الفرنسي والهوية الوطنية

لم يكن تأثير صعود اليمين مقتصرًا على السياسة والمهاجرين فحسب، بل امتد ليشمل المجتمع الفرنسي بأسره. تتصاعد المخاوف بشأن تزايد النزعات القومية والشعور بالاستقطاب الاجتماعي. يمكن لهذا التحوّل أن يؤدي إلى تعميق الفجوة بين مختلف فئات المجتمع الفرنسي، مما يهدد التماسك الاجتماعي.

توضح الدكتورة إيميلي لافوين، أستاذة علم الاجتماع في جامعة السوربون أنّ "النزعة القومية الجديدة تعيد طرح مسألة الهوية الوطنية بشكل حاد"، مشيرةً إلى أنّ "هذا الصعود يعكس مخاوف عميقة لدى شريحة كبيرة من المجتمع الفرنسي، ويخلق أيضًا بيئة متوترة تؤثر سلبًا على العلاقات بين الفرنسيين والمهاجرين".

ويُشكّل صعود اليمين في فرنسا تحديًا كبيرًا على عدة مستويات، فهو من جهة يعيد تشكيل السياسة الداخلية بطريقة تجعل قضية الهجرة في مقدّمة الأولويات، ومن جهة أخرى، يساهم في تغذية خطاب الكراهية والتمييز ضد المهاجرين، مما يهدد القيم الجمهورية التي تقوم على المساواة والحرية والأخوة.

في ظل هذه الظروف، يبقى من الضروري أن تبقى فرنسا ملتزمة بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويجب على المجتمع المدني والأحزاب السياسية الأخرى العمل على تعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف مكونات المجتمع الفرنسي، لتجنّب الانزلاق نحو مزيد من الاستقطاب والصراع.

صعود اليمين في الجولة الأولى ليس مجرد ظاهرة سياسية عابرة، بل هو تحوّل يعكس تطورات اجتماعية واقتصادية عميقة، تشكل تحديًا كبيرًا أمام الجهود المبذولة لترسيخ قيم الدولة، ومحاولة مواكبة التطلعات السياسية للناخبين لمنع اليمين من فرص وصوله مستقبلًا حفاظًا على التعايش السلمي والتفاهم بين مختلف مكونات المجتمع الفرنسي، الذي سيقوضه بالتأكيد وصول اليمين، وعلى فرنسا أن تجد توازنًا بين معالجة مخاوف مواطنيها والحفاظ على التزامها بحقوق الإنسان وقيمها الديمقراطية التي لطالما كانت مصدر فخر وإلهام للعالم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن