في الشرق الأوسط، ثمة مؤشرات بأن الصراع بين واشنطن وطهران قد بلغ مداه، وإلا كيف يمكن تفسير هزيمة المرشح المحافظ سعيد جليلي في مواجهة المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان في انتخابات الرئاسة الإيرانية؟
عمليا؛ فرش «المرشد الإيراني» السجادة الحمراء أمام ملامح مشروع إيراني يقود إلى التسويات لا إلى الحروب بمجرد مباركته وصول إصلاحي إلى سدة الرئاسة الإيرانية. لكن يبقى علينا أن ننتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، لمعرفة ما إذا كنا فعلًا على عتبة تسوية سياسية للصراع الأمريكي الإيراني على النفوذ في الشرق الأوسط أم لا؟
تقول إحدى أبرز دروس علم السياسة إن حلّ الصراعات يحصل عند بلوغها مرحلة النضج. هذا النضج يكون في حالتين لا ثالث لهما: إما معادلة (رابح/خاسر) أو التعادل بين المتصارعين (رابح/رابح أو خاسر/خاسر). في الحالة الأولى، يفرض القوى (بالسلاح مثلًا) حلّه على أهل السياسة. في الحالة الثانية، يسعى الأقوياء المتعادلون (بالسلاح أو بغيره) إلى حل سياسي يستوجب تنازلات متبادلة.
الحالة الثانية تنطبق على الإيراني والأمريكي في منطقتنا، بعد مقارعة عمرها من عمر سقوط الشاه محمد رضا بهلوي قبل 45 عامًا، ولو نظرنا إلى خريطة الصراع في الشرق الأوسط في يومنا هذا سنجد أن هناك قبتين في مواجهة بعضهما البعض. القبة الحديدية الإسرائيلية مقابل القبة الصاروخية الإيرانية. قبة مقابل قبة. صاروخ مقابل صاروخ. قبتان في المنطق الاستراتيجي تتشاركان الهدف ذاته: النفوذ الذي يقتضي تحشيد القدرات الهجومية والدفاعية والوقائية والمحافظة على توازن الردع بين اللاعبين في الميدان نفسه.
استبدلت معارك الأرض (البر) بمعارك في السماء. صار التنافس على أشده. ذهبت إسرائيل بالتعاون مع أمريكا لتعزيز القبة الحديدية الدفاعية حتى يكون بمقدورها أن تُهاجِم ولا تُهاجَم. بالمقابل، عزّزت إيران بالتنسيق مع أذرعتها قبة صاروخية متقدمة تتحرك في ساحة ممتدة من قلب آسيا الوسطى إلى قلب رفح. هكذا أصبح النزاع المتنامي في الشرق الأوسط بين أهل هاتين القبتين عنوانًا أساسيًا للصراع.
أدت المبارزة بين القبتين إلى سباق تسلح انتشر على كامل رقعة الشرق الأوسط.
أصبحت القبة الحديدية مطلبًا أمنيًا لبعض الدول العربية. المؤسف أن هذا المنطق فاقم سياسة السلاح مقابل السلاح واستمراره يعني استنزافًا خياليًا للخزائن العربية من فائض أموالها. إضافة إلى أن إعادة نسخ أو استنساخ القبب الحديدية دونه عقبات، أهمها الخشية من إحداث تغيير جذري في موازين القوى، الأمر الذي يجعل إسرائيل رافضة لامتلاك أي من دول المنطقة للقبة الحديدية. بالمقابل، تستمر إيران بتطوير قبتها الصاروخية الاستراتيجية في كل من لبنان وفلسطين وسوريا واليمن والعراق وبوظيفة متعددة الاتجاهات لكن ميزتها أنها جعلت النفوذ الإيراني يتمدد في طول الإقليم وعرضه، بأكلاف غير خيالية!
ويومًا بعد يوم، نشهد تنافسًا محمومًا بين القبتين من خلال جولات عديدة تُخاض على مسرح المنطقة، الأمر الذي بلغ ذروته ليل 13 ـ 14 أبريل الماضي، مع المواجهة الإسرائيلية الإيرانية الأولى من نوعها والتي كان مسرحها الفضاء الممتد من طهران حتى إيلات مرورًا بسماء العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
هذه المواجهة بين «القبتين» لم تكن لتكون لولا لحظة السابع من أكتوبر 2023، عندما خاضت حركة حماس معركة لساعات على أرض «غلاف غزة»، بحيث أشعرت إسرائيل بأن احتمال خوض الحروب على أرضها ما زال قائمًا، برغم تفوقها وقبتها الحديدية، وستكون كلفته عالية، بالوعي أولًا وبأبعاده العسكرية والأمنية الاستراتيجية ثانيًا.
وبالفعل، تمكنت حماس من إحداث فجوة في القبة الحديدية الإسرائيلية، سرعان ما اتسعت مع انخراط حلفاء للحركة في كل من لبنان واليمن والعراق بالمعركة نفسها. فجوة استراتيجية بنظر العم سام استدعت استدعاء بوارجه إلى المنطقة واستعراض ترسانته النووية، وذلك في رسالة واضحة بأن معادلة توازن الردع قائمة بالرغم من الفجوة الكبيرة التي أصابت القبة الحديدية الإسرائيلية.
لكأننا نشهد نوعًا جديدًا من الحروب. لم تعد واشنطن تستسهل زج جيشها على أرض رخوة كما حصل في كل من العراق وأفغانستان.. وماذا كانت النتيجة هنا وهناك؟ حركة طالبان تقيم في قصور كابول و«الحشد العراقي» يستطيع محاصرة المنطقة الخضراء في بغداد ساعة يشاء.
أرادت واشنطن تعادلًا عسكريًا، لكن بلا حروب برية على غرار الغزو الأمريكي للعراق ٢٠٠٣ أو احتلال الجيش الإسرائيلي لبيروت في العام ١٩٨٢.. ولعل أبرز تعبير عن ذلك هو الشعار الرئاسي الأمريكي المتداول «No boots on the Ground». ترافق ذلك مع سعي إيراني دؤوب لتفادي أي مواجهة تستدعي استخدام القوات البرية أيضًا. هذا التعطيل للسلاح البري، والالتزام به أفضى إلى أن منطق القوة ينحو باتجاه تثبيت قوة الردع وهيبتها.
بمعنى آخر، لنتخيل الصراع أشبه بحافلة سيارات توقفت عن الحركة بسبب فجوة في إحدى عجلاتها. هناك حلّان أمام قائد الحافلة وركابها. إما تغيير العجلات أو وضع رقعة على الفجوة المعطلة. في الصراع الدائر، تبدو حافلة النزاع عاجزة عن تغيير القبتين الحديدية والصاروخية. يبقى أمام أهلها البحث عن رقعة سياسية للفجوة التي أحدثتها حرب غزة. من الأصح القول بوجوب البحث عن قبة سياسية مُحصنة بكل عناصر الاستدامة الضامنة للاستقرار الإقليمي في ظل التعادل القائم بين أهل القبتين الحديدية والصاروخية وفي ظل رسو النزاع عند معادلة لا منتصر ولا مهزوم. فلا أمريكا غيّرت النظام في طهران ولا إيران أخرجت أمريكا من المنطقة.
في السابق، سعت واشنطن إلى عقد اتفاق نووي مع طهران بديلًا للمواجهة المفتوحة منذ عقود، لكن سرعان ما سقط الاتفاق لمصلحة استمرار الصراع ما دام لم تنضج ظروف التسويات بعد.
لذا، لا بد من قبة سياسية يُمكن صياغتها من منظور إقليمي يقي المنطقة تداعيات التنافس بين القبتين الحديدية والصاروخية.
الاتفاق السعودي الإيراني هو دليل ساطع على مقدرة دول المنطقة على صياغة بدائل عن الصراع بأشكاله كافة، وذلك من أجل تفادي الانزلاق نحو المواجهة بين أهل القبتين.
هذا الاتفاق ساهم في وضع النزاع ضمن إطار سياسي بدلًا من التفلت في استخدام السلاح بكل ما أنتج من تداعيات جعلت عددًا من شعوب المنطقة تدفع أفدح الأثمان.
عند هذه النقطة يصبح التفاهم السعودي الإيرانى ركيزة أساسية لسيناريو اليوم التالي إقليميًا. بهذا الاتفاق استطاعت الرياض تحييد الخليج العربي بأكمله من تداعيات حرب غزة. فكيف إذا صنعت اتفاقًا مشابهًا له مع واشنطن؟.
("الشروق") المصرية