غير أنّ انتقالات سريعة من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي فالمعلوماتي – وباعتماد هذا الأخير على تطبيقات تكنولوجيا يجري تحسينها باستمرار - غيَّر الكثير من ملامح المجتمعات المعاصرة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
الاهتمام بآثار المستخدمين على الويب انتشر ليشمل جميع الأنشطة
اجتماعيًا، تمّ الانتقال من مجتمعات طبيعية تحكمها روابط وعلاقات مادية مباشرة، إلى مجتمعات شبكية سائلة تستثمر في العقد الإنترنتية بشكل غير محدود.
أمّا اقتصاديًا، فقد هيمن على الأسواق المالية التداول عالي التردّد (High-Frequency Trading HFT)، وهي تقنية تركز على السرعة الفائقة في التنفيذ والتحليل، باعتماد نظام تداول حسابي يستخدم الحواسيب والعقول الإلكترونية والخوارزميات، لتكثيف وتحليل بيانات السوق الضخمة، ومن ثم توليد الأوامر والقرارات (في غالب الأحيان دون تدخل بشري)، قصد الوصول إلى أسواق جديدة، أو الاستفادة من تقلّبات الأسعار الصغيرة جدًا والتي قد تكون غير ملحوظة للمتداولين التقليديين، ما يسهّل على الفاعلين الكبار المتحكّمين في هذه التقنية، وهم قلّة، تنفيذ عمليات بيع وشراء للأوراق المالية في جزء من الثانية، ورغم المخاطر المحيطة بهذه التقنية إلّا أنّها صارت اليوم في الأسواق المالية الأوروبية والأميركية، مثالًا جيدًا لتحسين السيولة والكفاءة في الأسواق المالية.
العالم دخل عصر السياسة عالية التردّد على غرار التداول عالي التردّد في الأسواق المالية
سياسيًا، في السنوات الأخيرة، وبطرق مكثّفة، ركّزت المنصات العالمية الكبرى (آبل، أمازون، وفايسبوك..) جهودها على تكثيف دراسة وتكميم تفاعلات الشبكات الاجتماعية، وذلك من خلال تطوير خوارزميات حاسوبية سمحت بجمع وحساب وتحليل الآثار التي يتركها المستخدمون على شبكة الويب (علامات الإعجاب، التعليق، الشراء، المتابعة..) بغية الوصول إلى بيانات ضخمة حول "الأفراد الحقيقيين" الموجودين خلف الحواسيب، واعتبر هذ النوع من البحث في الاجتماعي الأفضل مقارنةً بجميع التقنيات السابقة كاستطلاعات الرأي التي اقترحها لازارسفيلد، أو دراسة العينات المجتمعية كما طوّرها غالوب.
وراء هذه الدينامية تختفي شركات التسويق والعلامات التجارية ومكاتب الإعلانات، التي تتبنى دور تمويل وتغذية إيرادات جميع هذه المنصات ومن ثم الويب بأكمله. Boullier) وLohard (، ولئن كانت الإنترنت قد ظهرت بدايةً تحت ضغط الظروف العسكرية، فإنّ تطوّرها وانتقالها إلى الأفراد والمجتمع، قد تمّ بفعل الركود الاقتصادي والأزمة التي حلت بالأسواق (أزمة السيليكون فالي بأمريكا)، وتدريجيًا تحوّلت جميع أشكال التفاعل والحضور على الإنترنت، إلى خدمات تدر على أصحاب المنصات والشبكات العالمية ثروات طائلة، وعليه فإنّ الاهتمام بآثار المستخدمين على الويب قد انتشر ليشمل جميع الأنشطة: تجارية، وثقافية، وسياسية، مؤسّساتية أو حتى بين الأفراد.
بالأسلوب ذاته انخرطت الأنشطة السياسية في مختلف أرجاء العالم، ضمن هذه الدينامية من التفاعل والاهتمام حد الهوس بحجم التغريدات والتدوينات والعلامات والميمات التي يتركها المستخدمون في إعادة التقاسم والمشاهدة والتفاعل والتعليق وترك علامات الإعجاب على الأحداث السياسية، وهو ما جعل العالم راهنًا يدخل عصر السياسة عالية التردّد (Boullier). والسياسة عالية التردّد هي مفهوم يُستخدم لوصف التفاعل السريع والمستمر مع الأحداث السياسية في العالم والتي يجري نشرها وتحديثها باستمرار على الشبكات، على غرار التداول عالي التردّد في الأسواق المالية.
تساؤلات حول المقاربة البشرية في اتخاذ القرارات وضمان الاستدامة والفعالية للسياسات المتبعة في العالم
يشير هذا المفهوم أيضًا إلى كيفية تعامل الحكومات والأحزاب السياسية والفاعلين السياسيين والمؤسّسات الحزبية والعسكرية، مع التغيّرات السريعة والمتكررة في المشهد السياسي في الفضاءين الشبكي والموقعي على حد سواء، اعتمادًا على تحليل وتكميم البيانات الضخمة لآثار المستخدمين، وذلك ضمن مسافة زمنية شديدة الانضغاط وفائقة السرعة، وضمن استراتيجيات سياسية عالية التردّد من قبيل:
- التكيّف السريع مع الأحداث: اتخاذ قرارات وتعديلات سريعة استجابةً للتغيّرات السياسية أو الاقتصادية المفاجئة.
- استخدام البيانات والتحليلات: جمع وتحليل المعلومات بشكل مستمر للتنبؤ بالاتجاهات واتخاذ قرارات مبنية على البيانات.
- التواصل السريع: استخدام وسائل الإعلام والمنصات والشبكات لنشر المعلومات وتوجيه الرسائل بسرعة.
- التفاعل مع الرأي العام: مراقبة ردود فعل المستخدمين وتعديل السياسات أو الاستراتيجيات بناءً على هذه الردود.
كل هذه الاستراتيجيات وأخرى يجتهد مهندسو الذكاء الصناعي ليلًا ونهارًا لتطويرها، يمكن أن تساعد في مواجهة مجتمع المخاطر العالمي والأسواق السياسية عالية التردّد، خاصّة ما ارتبط منها بسرعة التنبؤ واستباق أشكال التدخل والمعالجة لإدارة الأزمات والتعامل مع التحديات، لكنها في الوقت ذاته قد تثير أيضًا تساؤلات حول المقاربة البشرية وممارسة الحكمة والتأمل في اتخاذ القرارات وضمان الاستدامة والفعالية طويلة الأمد للسياسات المتبعة في مختلف مناطق العالم.
(خاص "عروبة 22")