كان بنيامين نتنياهو قاطعاً في تصميمه على يهودية الدولة، وعلى إلغاء كل ما له علاقة بتضاريس فلسطين من التاريخ والجغرافيا معًا، فلم يتحدث عن "حلّ الدولتين" تلك العبارة الاستهلاكية الفارغة من أي مضمون والتي تلوكها الألسن فيما دبابات الاحتلال تمعن في تجريف الأرض وأهلها.
عاريًا من كل التباس وبفجاجة كاملة أطلق نتيناهو رصاصه السياسي في كل الاتجاهات، وضد كل من انتقد إسرائيل وجرائمها ومجازرها. أطلقه ضد المتظاهرين في الولايات المتحدة وصوّرهم أدوات بيد إيران، وأطلقه ضد طلاب الجامعات وأساتذتها ووصفهم بالجهلة في الجغرافيا والتاريخ أيضًا، وأطلقه ضد محكمة الجنايات الدولية واصفًا قضاتها بأنهم لا يفقهون شيئًا في القانون. وبعجرفة لافتة تقمّص دور ونستون تشرتشل خلال الحرب العالمية الثانية ودعوته الولايات المتحدة لمساعدته: "أعطونا الأدوات، وسننهي المهمة".
بدت مواقف نتنياهو في الكونغرس أشبه بمانيفستو سياسي للمعركة الرئاسية في الولايات المتحدة
وقبل أن يطلق نتنياهو دعوته هذه في الكونغرس، كانت الطائرات الأمريكية تتقاطر إلى كيان الاحتلال لتفرّغ حمولتها من الذخائر الثقيلة كتأكيد على التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل وضمان تفوّقها الإقليمي. وكما هو متوقع صوّب نتنياهو مباشرةً على إيران ومشروعها النووي، وعلى نيّتها في السيطرة على الشرق الأوسط عبر الحوثيين و"حزب الله".
وقد بدت مواقف نتنياهو في الكونغرس أشبه بمانيفستو سياسي للمعركة الرئاسية في الولايات المتحدة، فحملت الكثير من الرسائل المشفرة للمنظمات الصهيونية الأمريكية التي سيكون لتصويتها فارقًا في انتخاب ساكن البيت الأبيض الجديد. وتوازيًا مع شكره جو بايدن في دعمه حرب إسرائيل على غزّة، توقف نتنياهو باهتمام عند دونالد ترامب وامتنانه العميق لاعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، كما وبالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، وهنا بالتحديد كانت تقف كل مسوّغات ومبرّرات ومنطلقات "طوفان الأقصى".
بعد نحو 10 أشهر على أطول الحروب الاسرائيلية، لم يعد نتنياهو "سيّد الأمن"، بل بات، وكما بدا في الكونغرس، "سيّد الكاميرا" التي خاطبها بذاتها وليس الرأي العام عبرها، علّه يستفيد من أضوائها في تلميع صورته وردم بعض الندوب التي أحدثها في وجهه "الطوفان" والذي لم يحقق أي من الأهداف الاسرائيلية المعلنة في مواجهته، وحقّق كل الأهداف غير المعلنة عبر المجازر المتواصلة في غزّة.
تفكيك "حماس" في غزّة يُشكّل ضربة استراتيجية عميقة لمحور المقاومة وزعيمته إيران
بعد نحو 10 أشهر، تجد إسرائيل نفسها أمام جبهة ممتدة من باب المندب إلى جنوبي لبنان مرورًا بسوريا والعراق. ولهذا فتأكيد نتنياهو على استمرارية الحرب حتى تحقيق الأهداف تعني بدون شك الإجهاز الكامل على "كتائب القسّام" والمقاومة الفلسطينية في غزّة. إنّه الاجهاز الذي إذا ما حصل سوف يطرح السؤال العميق حول جدوى وشرعية واستمرارية "جبهات الإسناد" في اليوم التالي لغزّة بدون المقاومة الفلسطينية.
بدون شك، إنّ تفكيك "حماس" والمقاومة الفلسطينية في غزّة، يُشكّل ضربة استراتيجية عميقة لمحور المقاومة وزعيمته إيران، وأساسًا للقضية العربية. وإزاء هكذا احتمال تتضح الأبعاد الاستراتيجية لمقولة زعيم "حزب الله" المتكرّرة "ممنوع هزيمة حماس"!
أمام هذه التحوّلات يمكن فهم تحريض نتنياهو على إيران و"حزب الله" والحوثيين. وأغلب الظنّ أن نتنياهو وقادة الاحتلال سيتلون فعل الندامة على ردّهم الذي استهدف مستودعات نفطية ومحطة كهربائية في ميناء الحديدة، رداً على "مُسيّرة يافا" التي استهدفت تل أبيب. فإسرائيل ومن حيث لا تدري كتبت على نفسها السبق في استهداف منصات نفطية يمنية، ما يعني بالضرورة أنّ الردّ اليمني المقبل والذي دخل مرحلة تخصيب غاز الأعصاب سيصيب بحسب مصدر يمني إحدى مصافي ومنصّات النفط الإسرائيلية، وسيشتعل الحريق الذي سيشاهده العالم برمته، وليس الشرق الأوسط فقط. والمسألة من طرف الحوثيين لن تتوقف على ردّ الضربة الإسرائيلية، لكنها ستتوسّع لتشمل تضييقًا أوسع عبر إغلاق البحر الأبيض المتوسط، وهذا ما تشي به بعض المشاورات المعمّقة بين مختلف جبهات الإسناد.
وفيما ينتظر العالم الردّ اليمني، فوجئ هذا العالم تزامنًا مع زيارة نتنياهو إلى الولايات المتحدة بفيديو جديد لمحلّقة "الهدهد" وهو يستعرض تفاصيل قاعدة "رامات دافيد" أكبر وأهم قاعدة جوية إسرائيلية شمالي فلسطين المحتلة، وقد أسهبت تقارير "حزب الله" في عرض تفاصيل هذه القاعدة وأسرابها الجوية المقاتلة ومخازن ذخائرها ومهاجع الجنود والضباط فضلًا عن نشر اسم وصورة قائدها. وهنا تبرز براعة "حزب الله" في الحرب النفسية التي تنال من سمعة الاحتلال ومعنوياته سيما وأنها تُظهر هشاشته الأمنية والردعية.
بورصة اتساع الحرب ترتفع أكثر من التسوية
ردّ الحوثي والتهديد الذي يمثّله "حزب الله"، وانعدام أي رؤية اسرائيلية أو غربية جادّة للتسوية، يشيان بأنّ بورصة الحرب ترتفع أكثر من التسوية. وفي هذه اللحظة الاستراتيجية المكثفة والمثقلة بالتطورات لا بد من التوقف أمام كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال استقباله نظيره السوري بشّار الأسد أنّ "الوضع في الشرق الأوسط يميل إلى التدهور، بما في ذلك في سوريا بشكل مباشر"، إنّه بوتين الذي سبق وهدّد الولايات المتحدة والغرب بالتعامل بالمثل على تسليحهم أوكرانيا، واستعداده لتزويد أعدائهم بأسلحة وصواريخ متطوّرة وذات مديات بعيدة. وبعض العارفين في خبايا محور المقاومة، يؤكدون أنّ سلاحًا جديدًا قد وصلهم قبيل تهديدات بوتين بأيّام.
بورصة اتساع الحرب ترتفع إذن، فهل يشكل الردّ الحوثي أو مفاعيل "هدهد" حزب الله الميدانية فتيل اشتعال الحريق الكبير!
(خاص "عروبة 22")