تُذكّرنا صورة المصفقين المهللين لخطاب (أحادي - كاذب) لرئيس الوزراء الإسرائيلي في الكونجرس الأمريكي قبل أيام، متجاهلين ليس فقط كل الحقائق والقرارات الدولية ذات الصلة، بل وحتى أصوات كل المعارضين للرجل، من المتظاهرين اليهود في باحة الكونجرس، أو حتى داخل إسرائيل نفسها، بصورة دونالد ترامب؛ الرئيس الأمريكي المحتمل وهو يضع ضمادة على إحدى أذنيه. أو بالأحرى بما تشير إليه تلك الصورة من دلالة.
لكم هو بائس أن يصم هذا أو ذاك إحدى أذنيه، فلا تسمح له عنصريته المسبقة أن يستمع إلا لصوت واحد يأتي من اتجاه واحد، غير عابئ بما يقوله الآخرون، حتى لو كان هو "عين الحقيقة". ولربما كان الأكثر بؤسًا أن ينجح المتعصبون في أن يأتوا لنا ثانية بذلك الذي يريد أن يجعلها Great Again، في الوقت الذي لا يستمع فيه إلا لنفسه.
يبدو أنّ الترامبيين الشوفينيين "على دين رئيسهم" يسمعون هم أيضًا بأذن واحدة ويرون بعين واحدة
دعك من مسرحية" المشهد"، أو "مسرحته" المتعمدة، والمعتادة من هذا الرجل/الممثل، فصورة دونالد ترامب وهو يضع ضمادة على إحدى أذنيه وهو يدخل مؤتمر الحزب الجمهوري الذي سيرشحه رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية التي تحكم واقعيًا عالمنا هذا تبقى دالة. فالرجل الملياردير المتهم بالتلاعب المغرق في نرجسيته لا يستمع فعليًا إلا لنفسه، التي عرفناها دائمًا في حياته الشخصية، والمالية، والسياسية "أمّارة بالسوء".
تذكّرنا صورة دونالد ترامب، وقد سد إحدى أذنيه بما بدا قبل أربع سنوات (في انتخابات 2020) من رفضه الاستماع إلى أصوات الناخبين، القادمة من الاتجاه الآخر، والمطالبة برحيله، فكان أن اتخذ كل ما من شأنه أن يحول دون ذلك، منتهكًا كل ما هو مستقر من أعراف ديمقراطية.
الذين لا يسمعون إلا لأنفسهم، أو لما يتفق مع تحيّزاتهم المسبقة هم عنصريون بالتعريف، وهكذا كان الرجل: قبل أن يصل إلى البيت الأبيض في ولايته الأولى، كان يغازل أنصاره العنصريين مثله بحديث صريح عن نيّته "منع المسلمين" من دخول أمريكا، بل وطلب فعلًا من مستشاره رودي جولياني - لاحقته الاتهامات الجنائية لاحقًا - أن يبحث عن طريقة قانونية لمنع المسلمين، هكذا على إطلاقهم، من دخول الولايات المتحدة الأمريكية. بالفعل وبعد أسبوع واحد من دخوله البيت الأبيض فاجأ الجميع بتوقيع قرار تنفيذي غير مسبوق يمنع جميع مواطني سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة. ولم ينسَ بالطبع أن يحظى توقيعه المبكر هذا بالصورة المسرحية التي باتت بعد ذلك معتادة، وبقلمه المميّز العريض.
يتسم العنصريون الذين لا يسمعون سوى بأذن واحدة بشيزوفرينيا فكرية لافتة
فضلًا عن "مسرحة" الديماجوجية التي كانت دومًا قرين الفاشية، والتي شاهدنا عرضًا فريدًا لها على "مسرح" الكونجرس قبل أيام، يتسم العنصريون؛ الذين لا يسمعون سوى بأذن واحدة، بشيزوفرينيا فكرية لافتة. فدونالد ترامب الذي يعتبر أنّ المهاجرين آفة المجتمع الأمريكي، والذي اتخذ رئيسًا كل وسيلة لمنعهم، تنتمي زوجته الثالثة ميلانيا (عارضة الأزياء السابقة) القادمة من سلوفينيا إلى هؤلاء المهاجرين (!).
مفارقة التناقض تلك، لم تكن قاصرة على الرئيس، إذ يبدو أنّ الترامبيين الشوفينيين "على دين رئيسهم"، يسمعون هم أيضًا بأذن واحدة، ويرون بعين واحدة. فالانجيليون المتديّنون المتشددون يؤيدون ترامب الذي يريد حظر الإجهاض، ولا يرون ترامب المتهم بشراء صمت ممثلة إباحية. كما لا يستمعون إليه وهو يتفاخر في الشريط المسرب بقدرته على "الإمساك بالنساء من أعضائهن التناسلية"، واليمينيون المحافظون يؤيدون شوفينية ترامب وشعاره الديماجوجي عن "أمريكا العظمى"، ولا يستمعون إلى القرار القضائي بإدانته بـ 34تهمة، بل يجمعون لحملته في اليوم التالي لإعلان الإدانة 400 مليون دولار.
قريب من ذلك ما جرى في الكونجرس، عندما اتهم نتنياهو الحكومة الإيرانية بمعاداة المثليين، فصفق له الجمهوريون رغم أنهم أيضًا يعادون المثليين (!).
عندما يصم هذا أو ذاك إحدى أذنيه، لا تستغرب أن يكون المسؤول عن محاولة اغتيال دونالد ترامب بسلاح نصف آلي شاب "أمريكي/جمهوري/أبيض"، ثم يخرج الجمهوريون في اليوم التالي مباشرة يطالبون بأمريكا "آمنة"، إلا أنهم يرفضون في الوقت ذاته أي أفكار ديموقراطية، أو تقدمية تطالب بحظر أو تنظيم أو تقييد حمل السلاح، أو حتى هذا النوع من السلاح، الذي استخدمه من حاول اغتيال زعيمهم.
من المقلق أن يصل إلى البيت الأبيض "ليحكم العالم" عنصري لا يستمع إلا لما تمليه عليه إنحيازاته
عندما يصم هذا أو ذاك إحدى أذنيه، كما الرئيس السابق والمرشح الحالي، فلا تستغرب التناقض في أن يكون "المجرم" القائم بمحاولة الاغتيال (أمريكي/أبيض)، ثم يخرج علينا الترامبيون في المكان ذاته الذي شهد "الجريمة"؛ الأمريكية/البيضاء، يطالبون في خطاباتهم الحماسية الزاعقة بحظر الهجرة "منعًا لانتشار الجريمة" (!).
وبعد،
فلم يكن جو بايدن، الرئيس الأمريكي الحالي مبالغًا حين قال لمذيع ABC News في حواره التلفزيوني الأخير "أنا أدير العالم" أو بنص كلماته: I’m running the world.
أليس من المقلق إذن أن يصل إلى البيت الأبيض "ليحكم العالم" عنصري يسد إحدى أذنيه فلا يستمع إلا لما تمليه عليه إنحيازاته التي نعرف؟.
بالنسبة لنا، كانت تحيّزات "سمسار صفقة القرن"، أكثر وضوحًا وتأثيرًا. فهو لم يعبأ (أو يستمع) لكل القرارات الدولية ذات الصلة، قبل أن يصدر قراراته بإسرائيلية الجولان، وبنقل سفارته إلى القدس "عاصمة إسرائيل الموحّدة".
بالنسبة لنا، هي ليست مجرد صورة يبيعها ترامب "كما هي وظيفته" لجمهوره الأمريكي "المتلفز"، ففي دلالاتها، مجازًا، كما في سلوكه وقراراته "وصفقاته" ما هو أكثر من ذلك بكثير.
(خاص "عروبة 22")