لا تخلو منظومات المعارف مهما تعالت بموضوعتيها من تحيّزات كامنة، والتحيُّز ليس إشكالًا أو قلقًا ابستمولوجيًا، بل هو ما يجب أن يكون في البِدء من التفكير والبحث، وبالتَّالي، فله دور حيوي تأسيسي وتجديدي في حقول المعارف والثقافات، ذلك أنّ المعرفة والتفكّر في العلوم ليس مجرد فعل عقلي مُصَفىَّ من التَّوجيه نحو غايات مخصوصة، فالمعرفة والغاية هما جناحا العقل من أجل الإبداع والتميّز والتّعبير عن الذَّات والأثر في العالم.
إنَّنا، بهذه التَّقدُمة، نروم الإشارة إلى مفهوم إجرائي فعّال؛ يمكن اعتباره شرطًا من شروط إمكان تأسيس المعارف وربطها بالواقع الإنساني، ونقصد هنا، مفهوم التوجيه، الذي هو الصورة المنهجية الحاسمة في مشاريع تنمية الإنسان، فالمعارف والمشاريع الثقافية من غير توجيه نحو غايات دقيقة، مثلها، مثل الذي يضرب في الأرض، فلا يدري إلى أيّة وجه يقصد كما قال أرسطو عمن لا يملك إشكالية ويريد التفكير؛ ولأجل ذلك ترى المجتمعات الحية تتكامل في برامجها التنموية: مشاريع العلم ومشاريع الثقافة وكذا مشاريع البناء الحضاري، والاضطراب أو الاختلال بين هذه المحددات، يعني تشوّهًا في الرؤية وسوء استعمال لما بين أيدينا من وسائل وإمكانات؛ تبديدًا للجهود وهدرًا للأوقات، وعلى هذا الأساس، تأتي فكرة التوجيه كشرط لأجل الرغبة في إحداث تحوّل نوعي في أحوالنا الثقافية، وإيجاد تجليات واقعية لأنظمة المعارف وجهود الإبداع.
الجامعات والمؤسسات المجتمعية التي لا تطبّق شرط التوجيه لن تبدع لا في المعرفة ولا في التأثير على الواقع
ومن الحقول التي لها أهمية في حركة التَّوجيه، حقل المعارف والفنون والأفكار، لأنّ المعرفة كما يطالعنا الفكر المعقَّد خاصة الإنسانية منها، معيارها في النمو ليس هو اقتدارها على التجريد والتَّكميم كما هو المقصد الأسنى للعلوم الطَّبيعية، بل في القدرة على التَّرابط مع السياق وإقامة حوارية معه من أجل تحسينه والارتقاء به نحو الأفضل دومًا، وهذه الجدلية بين المعرفة والسياق، تحمل في داخلها فكرة التوجيه؛ لأجل معرفة سياقية وواقع أفضل؛ وكأنَّ معيار نمو المعارف هو في مدى قدرتها على التَّوجيه نحو غايات مطلوبة، أو نحو حاجات حضارية ترسمها سياسة المجتمع.
إنّ الجامعات والمؤسسات المجتمعية، التي لا تطبّق شرط التوجيه الذي تترافق معه سمات أخرى مثل التّنظيم والتركيب؛ هي جامعات لن تبدع لا في المعرفة ولا في التأثير على الواقع، لأنها تهضم معارف جاهزة وتعيد تلقينها بجاهزية جامدة، بينما الجامعات التي توظف رؤية التوجيه في فلسفتها وفي برامجها، فإنّها تنحو إلى التميّز والكفاءة والإبداع وتوفر لمؤسسات المجتمع فائضًا في النظريات والأقوال العلمية، تمهيدًا لاستعمالها فيما يفيد. فكم من طاقات علمية ومؤسسات بحثية غابت عنها فكرة التوجيه، باتت مكاناً شبحًا تسكنه إبداعات الآخرين من المجتمعات الأخرى، وكم من مراكز بحثية ومؤسسات علمية ترابطت فيها المعرفة بالسياق؛ استطاعت أن تتحقق بالمعادلة التالية: المعرفة تعادل الابتكار، والابتكار يعني التشريع لقيم جديدة، لقد كانت فلسفة فريدريش نيتشه، مثالًا على تحرير العقل من السُّكون والإرادة من النفي والخور، وذلك عندما صرف قوله بأنّ الفلاسفة الحقيقين ليسو أولئك الذين يقولون: هذه هي الأشياء، وإنما أولئك الذين يقولون هكذا ينبغي أن تكون الأشياء أو يجب أن تكون هكذا، ومعنى هذا الإقرار، تركيز القوة في توجيه الأشياء نحو غايات مرسومة، وليس ادعاء الموضوعية الساكنة التي تستسلم لوهم واقع الأشياء بدل خلقها أو إبداعها.
من يفتقد إلى التوجيه يفتقد حتمًا إلى الوجهة
إننا في امتساس الحاجة، إلى فكرة التوجيه في أنظمتنا المعرفية والعملية، كي نحرر الطاقات من العبثية واللافعالية، ومن الصدامات الزائفة مع قيم المجتمع، فأن تفكّر هو أن تنطلق من الخصوصيات الثقافية ومن نظام القيم الاجتماعي السَّامي، وأن تتوافق في السّير نحو أهداف مرسومة، تحقيقًا لرغبة في التغيير وفي البناء. فمن يفتقد إلى التوجيه، يفتقد حتمًا إلى الوجهة، وإلى الترابط الجدلي بين المعارف والوقائع.
(خاص "عروبة 22")