بينما يستحق نتنياهو لقب "رئيس الكذّابين"، فإنّ خطابه المتشدد كان مناسبة لإعادة وضع بعض النقاط على الحروف وتأكيد المؤكد منذ عقود مع إنشاء الكيان الاستعماري في الأراضي الفلسطينية.
أولًا، أنّ إسرائيل قضية محلية في الولايات المتحدة وأنّ الدعم الحديدي لها، كما يردد الرئيس الأمريكي الصهيوني الفخور جو بايدن، ليس مسألة تتعلق بعلاقة بين دولتين، بل باندماج كامل بين الطرفين. فالجالية الأمريكية اليهودية المؤثّرة عددها يفوق عدد اليهود المقيمين في دولة الاحتلال، والإيمان بالمشروع الصهيوني و"حق الدولة اليهودية في الوجود" على أرض فلسطين يتم التعامل معه على أنه من المسلّمات وجزء من الثقافة الأمريكية (المسيحية-اليهودية) المشتركة، وفقًا لما قاله رئيس مجلس النواب الأمريكي الجمهوري مايك جونسون.
يضاف إلى ذلك التاريخ الأقرب المتعلّق بمحارق النازية وجريمة قتل "ملايين اليهود" أثناء الحرب العالمية الثانية، والشعور بالذنب للفشل في منعها.
قال نتنياهو بكلمات لا تحتمل اللبس أنّ إسرائيل هي الجيش المتقدّم للولايات المتحدة في المنطقة
كل ذلك يجعل من دعم إسرائيل أمرًا محسومًا حتى لو ارتكبت أبشع أنواع الجرائم بحق الفلسطينيين، ولذلك لم أكن مذهولًا للغاية من حجم التصفيق والانبهار بخطاب "رئيس الكذّابين" خاصة في عام انتخابي يريد فيه الجمهوريون الذين وجّهوا الدعوة لنتنياهو أن تكون قضية دعم الكيان المحتل إحدى النقاط التي قد تدفع الناخبين الأمريكيين اليهود للتصويت لصالحهم بدلًا من الحزب الديمقراطي الذين اعتادوا تاريخيًا منحه أصواتهم.
ثانيًا، أنه وعلى الرغم من هذه القناعات الراسخة في المجتمع السياسي الأمريكي، وخاصة بين أعضاء الكونجرس بمجلسيه والذين يعتمد الكثيرون منهم على التبرّعات السخية للوبي الأمريكي الصهيوني ممثلًا في منظمات مثل "إيباك" وغيرها، فإنّ حائط الدعم المطلق لإسرائيل قد بدأ في التشقق أمام كمّ الأهوال وجرائم القتل البشع لأطفال ونساء ومدنيين التي يراها العالم بأكمله في قطاع غزّة على مدى الشهور العشرة الماضية.
قبل سنوات قليلة، لم يكن من الممكن حتى تخيّل أو تصوّر أنّ نحو مائة من أعضاء الكونجرس بمجلسيه، سيقاطعون خطابًا لرئيس وزراء إسرائيلي ويرفضون أكاذيبه والاستمرار في الدعم غير المشروط لدولة الاحتلال بعد أن تحوّلت لمصدر للفوضى في منطقة الشرق الأوسط، وأضرّت بالمصالح الأمريكية نفسها. كما لم يكن من الممكن تصوّر أن تتمكن عضوة مجلس النواب الشجاعة رشيدة طليب من رفع لافتة صغيرة تعكس الحقيقة التي أصاب غالبية أعضاء الكونجرس العمى ورفضوا الاعتراف بها، وهي أنّ من يلقي الخطاب أمامهم هو "مجرم حرب".
ثالثًا، عَكَس خطاب نتنياهو طبيعة العلاقة بين الطرفين. فهو قال بكلمات لا تحتمل اللبس أنّ إسرائيل هي الجيش المتقدّم للولايات المتحدة في المنطقة، تقوم بما لا تريد القيام به من أعمال عسكرية وأمنية لحماية مصالحهما المشتركة، ولكي لا تضطر للقدوم بقواتها بنفسها والعمل على الأرض.
وفي هذا السياق، يتعاون الطرفان لإنتاج أكثر أنواع الأسلحة تطورًا، في تلميح واضح ليس فقط إلى أنظمة الدفاع الصاروخية كالقبة الحديدية وغيرها، ولكن بالطبع أسلحة نووية تتسامح الولايات المتحدة مع امتلاك الكيان المحتل لها.
كما طالب رئيس وزراء العدو المشرّعين الأمريكيين بالمزيد من السلاح والعتاد لكي تنتهي إسرائيل من مهمتها بسرعة، محذرًا من أنّ العدو المشترك، "إيران وأذرعها" في المنطقة، هو المستفيد الوحيد من أي مظاهر شقاق أو خلاف قد تبدو على السطح بين الطرفين، ومن أنه إذا تم الضغط على إسرائيل لوقف الحرب والتوقف عن "محاربة الإرهاب" وتوجيه اتهامات ارتكاب جرائم الإبادة والحرب لقادتها، فإنّ أمريكا ستكون الهدف التالي.
ولا شك أنّ هذا أمر يقلق المشرّعين الأمريكيين في بلد متّهم بدوره بارتكاب عدد لا يُحصى من جرائم الحرب في العراق وأفغانستان، أيضًا بدواعي كاذبة عنصرية تتعلّق بالحرب بين "الحضارة والوحشية" كما قال نتنياهو في مطلع خطابه لتوصيف الحرب التي يخوضها في غزّة.
الطبقة الأمريكية الفاسدة التي تقتات من ملايين الدولارات التي ينفقها اللوبي الصهيوني لن تبقى في أماكنها للأبد
المشرّعون الذين كانوا يهبّون كل عدة دقائق للتصفيق الملتهب لنتنياهو صدّقوا كل أكاذيبه من فرط حبّهم لإسرائيل، حتى عندما قال إنّ بلاده لم تقتل أي مدنيين عمدًا تقريبًا في غزّة، وأنّ المسؤولية كاملة تقع على عاتق "حماس" التي تطلق هجماتها من منشآت مدنية مثل المدارس والمستشفيات. وحتى في الحالة الوحيدة التي أقرّ فيها بسقوط مدنيين في رفح، فإنه أشار إلى أنّ السبب هو أنّ صاروخ إسرائيلي أصاب أحد مخازن الأسلحة التابعة لـ"حماس"، وهو ما أدى بدوره إلى سقوط نحو عشرين فلسطينيًا.
خطاب نتنياهو أكد أنّ المسار ما زال طويلًا حتى تكون هناك فرصة لتغيّر حقيقي في السياسة الأمريكية الرسمية نحو إسرائيل، ولكن المظاهرات التي لاحقته في الشوارع الأمريكية ومقاطعة عدد غير مسبوق من المشرّعين لخطابه، هي بداية لمظاهر تغيير لا يمكن أن تخطئها عين. وهذه الطبقة السياسية الأمريكية الفاسدة التي تقتات من ملايين الدولارات التي ينفقها اللوبي الصهيوني لن تبقى في أماكنها للأبد، وستضطر للانصياع لأصوات الأجيال الأمريكية الشابة الصاعدة التي لا تتقن الكذب والنفاق والفساد.
(خاص "عروبة 22")