كانت تلك الحرب قد اشتعلت بين بريطانيا وفرنسا في القرن الرابع عشر، وكانت لها أسباب متنوعة بين ما هو سياسي، وما هو اقتصادي، وما هو غير ذلك بين البلدين اللذين لا يفصل بينهما سوى بحر المانش الشهير.
ولكنها ليست موضوع هذه السطور طبعًا، إلا من حيث استدعاء اسمها على لسان الفريق ياسر العطا مساعد قائد الجيش السوداني، فالرجل قال في مانشيتات عريضة منشورة على لسانه، إنه لا تفاوض ولا هدنة مع قوات الدعم السريع التي تقاتل الجيش منذ ما يزيد على السنة، حتى ولو دام القتال بين الطرفين مئة عام كاملة!.
يكفي أن تكون عربيًا لتندب سوء حظك الذي جعلك ترى السودان بينما أبناؤه يقتل بعضهم بعضًا
بالتوازي مع كلام الفريق العطا، كان كريستوس كريستو رئيس منظمة أطباء بلا حدود، يقول إنّ الوضع في السودان بات هو الأسوأ على الإطلاق، وإنّ سبعين في المائة من المستشفيات والمرافق العامة قد خرجت من الخدمة، وإنّ البقية الباقية مؤهلة هي الأخرى للخروج من الخدمة إذا لم تتوقف هذه الحرب المجنونة.
ماذا بالله يمكن أن يُقال للفريق العطا؟ أو للذين يؤمنون بما قاله ويقوله؟ أو للذين يعتقدون مثله في أنّ الحرب لا يجب أن تتوقف، إلا بضربة قاضية يوجهها الجيش لقوات الدعم السريع فينتهي القتال في الحال؟
إنّ التصريح الذي أطلقه الرجل لا بد أنه قد أوجع قلوبًا كثيرة يؤلمها أن يكون هذا هو حال السودان، أو بمعنى أدق يؤلمها أن يكون السودان قد وصل إلى هنا.. والتصريح ذاته لا بد أنه قد أسعد الذين يفرحون بما يجري في البلد منذ الخامس عشر من أبريل/نيسان في السنة الماضية عندما قامت هذه الحرب المشؤومة.
فالذين استقبلوا كلام الفريق العطا ليسوا سواءً في المنطقة وخارجها، لأنّ منهم فريقًا يوجعه الحاصل هناك حتى ولو لم يكن سودانيًا، وحتى ولو لم يكن قد رأى الخرطوم أو زارها.. فيكفي أن تكون عربيًا لتندب سوء حظك الذي جعلك ترى السودان بينما أبناؤه يتقاتلون ويقتل بعضهم بعضًا فكأنهم خصوم وأعداء!.
يصعب على المرء أن يتصوّر أن تدوم حرب عامًا ونصف العام إلا إذا كان وراءها أطراف تغذيها
ويكفي في المقابل أن تكون كارهًا لكل عربي، لا لكل سوداني فقط، لتفرح بهذا التقاتل بين الفريقين وتتمنى لو طال إلى الأمد الذي يراه ويجده الفريق العطا.. وما أكثر الذين يقفون في هذا الجانب هنا بيننا وهناك خارج المنطقة.. ما أكثرهم لأنّ المرء يصعب عليه أن يتصوّر أن تدوم حرب داخل البلد الواحد عامًا ونصف العام تقريبًا، إلا إذا كان وراءها طرف أو أطراف تغذيها، ثم تمدها بوقودها كلما أوشك الوقود أن ينفد.
يصعب أن تقاتل قوات الدعم السريع جيش بلدها كل هذه الشهور، بغير أن يكون وراءها طرف أو أطراف تضع في يد هذه القوات السلاح، وفي جيوبها المال، ثم تزرع في عقول عناصرها أنّ جيش البلاد خصم لهم، وأنهم أحق بالحكم والسلطة من حكومة البلاد وجيشها.
يصعب أن يخرج مساعد قائد الجيش السوداني بهذا الكلام على الناس، دون أن يكون هناك طرف قد همس في أذنه بأن يمضي في طريق القتال، وفي أُذن قائد الجيش فأغراه بأن يستمر في الحرب إلى مائة سنة، ثم وعدهما بأنّ المدد سوف يظل يصلهما طول الوقت، وبأنّ مخازن السلاح سوف لا تكون موصدة دونهما معًا.
إنّ حجم الجريمة التي ارتكبها محمد حمدان دقلو، الذي يتولى قيادة قوات الدعم السريع، لا يمنعني من أن أظل أتطلع إليه على أنه أقرب ما يكون إلى الولد المتمرد على أبيه، وبالتالي، فإنّ مسؤولية الأب هي في أن يعرف كيف يحتويه، وكيف يستوعبه، وكيف يأخذه من أيدي الطرف أو الأطراف التي تتولاه وترعاه، لا لغرام به ولا بقواته، ولا لسواد في عينيه وعيون قواته، ولكن على سبيل الكيد للسودان كبلد وكأرض وكوطن معًا.
ليت الفريق العطا ينتبه إلى أنّ دوام الحرب مائة سنة ليست شجاعة محسوبة في ميزان الجيش السوداني، ولا هي جسارة من جانب الجيش وقيادته، لأننا لو افترضنا أنّ الحرب دامت مائة سنة، فوقتها لن يكون هناك شيء موجود اسمه السودان.. ليت الفريق العطا يراجع نفسه، ثم يراجع قيادته، لعله ولعلها يقطعان الطريق على الذين ينفخون في نار هذه الحرب من وراء ستار.
(خاص "عروبة 22")