يترتب عن هذا التوصيف خلاصة أولية أولى: تراجع تداخل الاقتصادات والأسواق الوطنية التقليدية، لفائدة ترابط الفضاءات الاقتصادية، التي أضحت منظمة على شكل شبكات من التبادلات الاقتصادية الكثيفة والمركّزة.
من التوصيف إياه ومن الخلاصة المترتبة عنه، نستطيع القول بأنّ تطور التكنولوجيا الرقمية قد حمل معه حقًا، تحولات عميقة، جذرية وغير متوقعة على مستوى طبيعة ومسارات الاقتصاد العالمي، لم يكن لهذا الأخير قبلًا بها في العقود الخمسة الماضية، إذ باتت سلاسل القيمة العالمية مُهَيكلة في ظل فضاء واقعي وافتراضي واسع، يفرز أحجامًا ضخمة من المعطيات التي باتت تقتني شبكات وأعتدة تربط الفضاءات الاقتصادية المتنافسة فيما بين بعضها البعض.
القوة المتزايدة لكبار الرقمنة لا توازيها إلا وضعية الارتهان التي يخضع لها مستهلكو التكنولوجيا الرقمية
ميزة هذه الفضاءات الاقتصادية المترابطة تكمن في كونها تشتغل تحت سقف نمط إنتاج وتوزيع واستهلاك القيمة المضافة، انطلاقًا من مليارات المعطيات ذات القيمة التجارية والاقتصادية والاستراتيجية العالية، والتي يتم التقاطها وحملها عبر آلاف كيلومترات الكوابل البحرية والشبكات الأرضية باتجاه المنصات الرقمية والخوادم والخوارزميات، كلها ملك وتحت مراقبة فاعلين خواص، تم التعارف على نعتهم بـ"الإمبراطوريات الرقمية الجديدة": غوغل وآبل وفايسبوك وأمازون وميكروسوفت للولايات المتحدة، ثم بايدو وهواوي وعلي بابا وتنسنت وكزيامي بالنسبة للصين.
هؤلاء هم عصب الشركات الرقمية المتعددة الجنسيات، التي تقاس مداخيلها وأرقام معاملاتها وقيمتها بالبورصات الدولية، بمئات المليارات من الدولارات.
لم نعد والحالة هذه، بإزاء اقتصاديات تقليدية أو أسواق مواد أولية أو صناعية، أو رجال أعمال يشيدون المعامل الضخمة ويديرونها. إنّنا بتنا بإزاء فاعلين جدد مادتهم الأولية هي المعطيات الضخمة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي الكفيلة باستغلالها، والمنصات العابرة للحدود والقادرة على التقاط كل معطى من المعطيات الثابتة أو العابرة، لمعالجتها وتخزينها واستغلالها وتوزيعها على نطاق كوني واسع.
هذه القوة المتزايدة لكبار الرقمنة لا توازيها إلا وضعية الارتهان التي يخضع لها مستهلكو التكنولوجيا الرقمية ذاتها، أو المرتبطون بمنصاتها، أو المقتنون لشبكاتها، أو المبحرون في محركات بحثها، أو المرتهنون لبرمجياتها وخوارزمياتها.
إنّه اقتصاد "تسليع التجربة الإنسانية" حيث ينظر إلى الإنسان ككائن تكمن ماهيته وغايته في الاستهلاك والاقتناء اللامحدود
بالتالي، فإنّ اقتصاد المعطيات الضخمة التي نفرزها بأيدينا، أو باستعمالاتنا لهذه التكنولوجيا والمنصات البانية لها، إنّما يرتكز على أدوات جديدة ناجعة، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي، لتحديد مواصفاتنا وسلوكنا وعاداتنا وأنماط عيشنا واستهلاكنا وحلنا وترحالنا، والعمل على تسويقها وبيعها للمعلنين، المهووسين بتوسيع نطاق السوق وترسيخ ثقافة الاقتناء.
إنّ اقتصاد المعطيات الرقمية الضخمة، وبصرف النظر عن بُعده المادي الخالص، إنّما هو اقتصاد التسلل واختراق حياة مستهلكي سلع وخدمات الإنترنت. إنّه اقتصاد "تسليع التجربة الإنسانية"، حيث لا ينظر إلى الإنسان باعتباره ذاتًا قائمة، بل ككائن بشري تكمن وظيفته وماهيته وغايته في الاستهلاك والاقتناء اللامحدود.
إنّ تقييم شركات الشبكات الرقمية الكبرى لمعطياتنا، حتى الشخصي والحميمي منها، هي العملية التي تتمحور حولها المنافسة، ويشتد حولها الصراع وتتحدد بالقياس إليها حصص السوق لهذا الفاعل أو ذاك.
هو اقتصادٌ لا يُقيم اعتبارًا كبيرًا للدول أو للحكومات والبرلمانات، وكيف يقيم لها الاعتبار إياه وأرقام معاملات فاعليه تتجاوز بكثير النواتج الداخلية الخام للعديد من البلدان، بما فيها بعض البلدان المتقدّمة نفسها؟.
ثم هو اقتصادٌ لا يُميّز بين الفضاء العام والفضاء الخاص. الكل يجب أن يخضع لمنطق السوق، وينصهر في آليات المنافسة، ويندغم في عجلة الإفراز اللامتناهي لمصادر القيمة والثروة. أمّا فاعلوه، فهُم سلط تشريعية بكل المقاييس. هم الذين يُحددون شروط استخدام منصاتهم، ويلزمون بها المستهلكين، مبحرين ومشتركين. يذهبون حد حجب حساباتنا ومنع صفحاتنا، دون موجب حق قانوني، ألّلهم إلّا ما سنوه وارتضوه من قوانين.
المعطيات الرقمية الضخمة هي عماد الاقتصاد الجديد.. ثروة نحن مادتها ونحن سوقها
لا قيمة، برأي هذه "السلط الجديدة"، للدولة أو للبرلمانات أو لهيئات الرقابة والحكامة. إنّها تسن قوانينها الخاصة وتفرضها على المستهلكين كما بحالات عقود الإذعان. نحن نقدّم معطياتنا "هدية" لها، نظير مجانية خدماتها. لكن هذه المجانية هي مجانية كاذبة، إذ لو سلّمنا بكونها كذلك، فمعناه أنّنا نحن السلعة بالمحصلة النهائية، أي نحن "المادة" التي تبيعنا هذه السلطة للمعلنين والمشهرين.
إنّ المعطيات الرقمية الضخمة هي عماد الاقتصاد الجديد. هي مُحدد سلاسل الإنتاج والاستهلاك وتوزيع الثروة والسلطة على النطاق العالمي. إنّها الثروة التي لا تُستخرج من بطون الأرض ولا من بين جدران المعامل. ستخرج من فعلنا وتفاعلنا مع الشبكات والمنصات والتقنيات الجوالة: نحن مادتها ونحن سوقها.
(خاص "عروبة 22")