تقدير موقف

كيف نجحت الصهيونية في التحكّم في دوائر صناعة القرار بالعالم؟ (2/4)"مِن أين تُؤكل الكتف"؟

استكملت الصهيونية مسارها بعد زوال شمس إمبراطورية بريطانيا العظمى، وطبّقت سياسة "مِن أين تؤكل الكتف"، هذا المثل الشهير الذي يُضرب لمن يتصف بالدهاء واستخدام السياسة الميكيافيلية "الغاية تبرر الوسيلة"، فاتجهت إلى مَدِّ شبكتها العنكبوتية إلى دوائر صناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تلاقت المصالح الأمريكية مع الأفكار الصهيونية.

كيف نجحت الصهيونية في التحكّم في دوائر صناعة القرار بالعالم؟ (2/4)

ولكي نفهم بدايات الدعم، نعود إلى بداية تأسيس الولايات المتحدة الأميركية سنة 1776، حيث لعبت الرؤى الأصولية المسيحية البروتستانتية دورًا كبيرًا في تشكيل هوية الدولة، ورأى البروتستانت الإنجيليون أنه "على الولايات المتحدة الأمريكية مساندة اليهود بكل قوة للسيطرة الكاملة على كل الأرضي الفلسطينية، إيمانًا منها بأن هذا يُسرّع عودة المسيح الثانية"، والمعروفة باسم "المشيحانية" والتي ترى ضرورة تجميع اليهود من كل بلاد الشتات ثم يأتي المسيح المخلّص ليقوم بقتال كل أعداء اليهود ويقهرهم ويقيم "الفردوس الألفي" في الأرض يكون فيه اليهود هم سادة العالم أجمع بلا منازع وباقي البشر خدم لديهم.

نجحت الصهيونية في التغلغل في دوائر صنع القرار الأمريكية منذ وقت مبكر

وظهر مصطلح "المسيحية الصهيونية"، بحيث تأثرت العقيدة البروتستانتية كثيرًا باليهودية، ونتج عن هذا التأثّر تعايش يُشبه التحالف المقدّس بين البروتستانتية واليهودية؛ ذلك أنّ المسيحية الصهيونية تريد إعادة بناء الهيكل اليهودي في الموقع الذي يقوم عليه المسجد الأقصى اليوم. وفي نظرهم يحدث ذلك عن طريق تحقيق هيمنة إسرائيلية كاملة على كل فلسطين، كون فلسطين هي "الأرض الموعودة". وتعتقد المسيحية الصهيونية أنه بذلك تعمّ البركة الإلهية على العالم كلّه.

لذا نجحت الصهيونية في التغلغل في دوائر صنع القرار الأمريكية منذ وقت مبكر، فنجد بعد وعد بلفور 1917، قال الرئيس الأمريكي توماس وودرو ويلسون في بيان للشعب الأمريكي: "أنا مقتنع بأنّ دول الحلفاء بالاتفاق مع حكومتها وشعبها قد اتفقت على أن ترسي في فلسطين أُسس كومنولث يهودي".

وعندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى وافقت الحكومة الأمريكية في يناير/كانون الثاني سنة 1918 على تشكيل كتيبة من اليهود الأمريكيين، ومن اليهود المتطوعين من الأرجنتين وكندا باسم الكتيبة "39"، ونُقل قسمٌ منها إلى مصر وشرق الأردن في العام نفسه، ونُقل الجزء الأعظم منها إلى فلسطين بعد أن وصلت الحرب إلى نهايتها، وفي يونيو/حزيران 1918 شُكِّلت كتيبة أخرى، هي الكتيبة "40"، وعملت على تجنيد اليهود في المناطق التي احتلتها بريطانيا من فلسطين.

تشكلت لجنة "أنجلو-أمريكية" من أجل تشكيل الجيش اليهودي الذي سيحارب لبقاء الصهيونية

وفي مؤتمر الصلح في باريس 1919، نقل المندوب الأمريكي اقتراح حكومته باستثناء فلسطين من أية محاولة لإعطاء العرب الاستقلال. وامتدادًا لذلك النفوذ الصهيوني في مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين قرر المجلسان في 11 سبتمبر/أيلول 1922 في جلسة مشتركة إظهار العطف وضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

وتزايدت موجات المطالبة بتأسيس الجيش الصهيوني في الأوساط الأمريكية، وتشكلت من أجل ذلك لجنة "أنجلو-أمريكية" من أجل تشكيل الجيش اليهودي الذي سيحارب لبقاء الصهيونية.

وعندما عُقِد المؤتمر الصهيوني العالمي في 9 مايو/أيار سنة 1942 في فندق بولتيمور في نيويورك، اتخذ قرارًا بتحويل فلسطين إلى دولة يهودية، وإجلاء العرب عنها إذا عارضوا ذلك، وسرعان ما صرح الرئيس فرانكلين روزفلت رسميًّا بالمساعدة على إقامة دولة يهودية في فلسطين.

وعندما اجتمع روزفلت والزعيم الصهيوني ستيفن وايز في 16 مارس/آذار 1945، خوّله أن يقول إنّ الرئيس قد أوضح موقفه إزاء الصهيونية في خطاب كُتب في أكتوبر/تشرين الأول 1944. هذا الخطاب كان قد أرسله الرئيس إلى النائب الديمقراطي عن ولاية نيويورك بمجلس الشيوخ روبرت واجنر، وتضمن موافقة الرئيس الكاملة على برنامج الحزب الديمقراطي سنة 1944، وهو البرنامج الذي أيّد حرية الهجرة اليهودية دون قيد أو شرط إلى فلسطين وإقامة دولة يهودية.

كما أعلن الرئيس هاري ترومان في 16 أغسطس/آب 1945 في مؤتمر صحفي تأييده للسماح بدخول أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين. وبعث في 31 اغسطس/آب رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني كلمنت أتلي يطلب فيها السماح لمائة ألف آخرين من اليهود الناجين من خطة الإبادة النازية المدّعاة في أوروبا بدخول فلسطين، وعرض استخدام السفن الأمريكية في المساعدة على توفير وسائل الانتقال اللازمة لهم.

وتأسيسًا على ذلك أصدر ترومان في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1946 بيانًا يدعو إلى هجرة يهودية كبيرة إلى فلسطين دون انتظار التوصل إلى تسوية دائمة لمستقبل انتداب فلسطين. وضغطت الولايات المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 على عدد من الدول لحملها على التصويت إلى جانب تقسيم فلسطين، خصوصًا مندوبي هايتي وليبريا وسيام، ولولا تحوّل هذه الدول من الرفض إلى الموافقة لفشل اقتراح التقسيم.

صيغت أخطر الخطط المدروسة في عناية فائقة لتدعيم دولة الكيان على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني

وعند إعلان قيام الكيان الصهيوني سارع الرئيس ترومان بالإعلان عن اعتراف الولايات المتحدة بهذا الكيان وتأييده في 14 مايو/أيار 1948، وهو يوم إعلان قيام الكيان المزعوم نفسه.

وأعطى كل هذا التأييد الناتج عن تحكّم الصهيونية في دوائر صناعة القرار الفرصة القوية لدعم الكيان الصهيوني في الحرب العربية - "الإسرائيلية" الأولى 1948، فكان النزوح الجماعي الكبير الذي لم تشهد له فلسطين مثيلًا من قبل، والأسباب باتت واضحة للعيان، فلم يأتِ هذا التهجير والإجلاء عفويًّا أو مجرد مصادفة، بل كان مدروسًا على أرفع المستويات الصهيونية، والبريطانية، والأمريكية، وفي سبيل تلك الغاية صيغت أخطر الخطط المدروسة في عناية فائقة لتدعيم دولة الكيان على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني.

هذه سياسة الصهيونية القائمة على التغلغل والسيطرة على مراكز القرار والحكم والنفوذ والإعلام. وقد كشفت استطلاعات للرأي، تجريها مؤسسة غالوب بصورة دورية سنوية منذ 1975، أنّ شعبية إسرائيل تزيد على شعبية الرؤساء الأمريكيين؛ والسبب الأكبر يعود إلى تحكّم اللوبي الصهيوني في دوائر صناعة القرار الأمريكي. فما قصة هذا اللوبي؟.

يتبع..


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن