بصمات

فكرة طرحها وزير ثقافة

روى لي وزير ثقافة عربي سابق، أنه لما كان وزيرًا في العقد الأول من هذا القرن، لاحظ أنّ اجتماعات وزراء الثقافة العرب لا تؤدي إلى شيء حقيقي يخدم العرب كأمّة، أو يحفظ لها ثقافتها وشخصيتها ضد كل ما يمكن أن ينال منهما.

فكرة طرحها وزير ثقافة

لاحظ وزير الثقافة العربي ذلك فلم يشأ أن يسكت، وقد كان يؤمن بأنّ وزير الثقافة بالذات تقع عليه مهمة تجاه بلده ثم تجاه وطنه الأكبر، وأنّ عليه "رسالة" لا بد أن يؤديها إزاء مواطنيه سواء كانوا يحملون جنسية البلد العربي الذي يمثله الوزير، أو كانوا عربًا باتساع الوطن بين المحيط والخليج.

وكان أن اقترح الوزير في أحد اجتماعات مجلس وزراء الثقافة أن يتم تخصيص مبلغ لمشروع ثقافي عربي محدد كل عامين، وأن يجري تنفيذه في البلد العربي الذي يتفق عليه المجلس، وأن تنتقل الفكرة بعدها إلى بلد عربي آخر، ثم إلى بلد عربي ثالث، ثم رابع فعاشر إلى آخر القائمة، وهكذا نجد أنفسنا بعد مدة أمام معالم ثقافية متناثرة جرى تنفيذها خلال فترات زمنية محددة سلفًا على امتداد عواصم العرب.

إرادة الجامعة العربية هي حاصل جمع الإرادات العربية مجتمعة

وكانت الفكرة من وراء الاقتراح أنّ ذلك سيجعل لاجتماعات وزراء الثقافة مردودًا على الأرض يراه المواطنون العرب، وسيجعل اجتماعاتهم تختلف عن اجتماعات بقية الوزراء بمختلف ملفاتهم وتخصصاتهم التي قد تتباين من دولة عربية لأخرى، ولكن الثقافة بمفهومها العام لا تتباين لأنها تجمع بطبيعتها بين العرب ولا تفرّق.

المفارقة كما سمعت من الوزير السابق، أنّ دولة عربية غنية اعترضت من خلال وزير ثقافتها، وكان مبرر الرفض أنّ المشروع المقترح كبداية هو موقع لمعبد أثري!.

وكانت النتيجة أنه تم وأد الفكرة في مهدها فماتت حيث ولدت، ولم تكتب لها السماء أن ترى النور، ولو أنها رأته لكنا اليوم أمام عشرة مشروعات ثقافية على الأقل في عشر دول عربية، وكان سيُقال إنّ المشروعات العشرة هي من حصيلة اجتماعات وزراء الثقافة، وكان الأهم أنّ مثل هذه المشروعات ستكون نواة يمكن البناء عليها في العمل الجماعي العربي بمعناه الأوسع.

كانت المناسبة التي جعلت وزير الثقافة السابق يروي لي هذه الواقعة، أني كنت قد كتبت أدعو جامعة الدول العربية إلى تبني مشروع ثقافي معيّن، وكان تقدير الوزير السابق أنّ التجربة تقول إنّ الرهان على جامعة الدول في هذا الاتجاه غير ذي جدوى.

والحقيقة أنّ هذا هو الانطباع لدى كثيرين من المواطنين العرب عن الجامعة، وكَمْ تمنيت لو أنّ الجامعة عملت من مقرها في ميدان التحرير بالقاهرة على تبديد مثل هذا الانطباع.. فلديها من الإمكانات ما يسعفها بذلك لو أرادت.. ولكن الأمانة تقتضي أن نقول في المقابل، إنّ إرادتها تظل مستمدة من إرادة العرب أنفسهم مجتمعين، وبمعنى أكثر دقة، فإنّ إرادتها كجامعة هي حاصل جمع الإرادات العربية مجتمعة.

إنّ ما حصل في اجتماع وزراء الثقافة عن المشروع المقترح إياه، يمكن أن يحدث في كل اجتماع للجامعة على مستوى المندوبين، أو على مستوى وزراء الخارجية، بل إنه يحدث على مستوى القمة، ولا دليل على ذلك إلا بعض الڤيديوهات المسرّبة عن اجتماعات سابقة بين الرؤساء العرب على مستوى القمة وتحت مظلة الجامعة.

ولا بد أنّ الأمين العام الذي كان على رأس الأمانة العامة وقت انعقاد تلك القمم التي جرى تسريب مواقف كاشفة فيها، كان يتطلع إلى ما يجري أمامه في القاعة ولسان حاله يقول إنّ عينه بصيرة وإنّ يده قصيرة، ولم يكن بالطبع يعرف ماذا عليه أن يقول، إذا ما جاء الرأي العام العربي يسائله عن السبب الذي لا يجعل القمم ذات عائد في حياتنا العامة كعرب؟.

الفكرة أقرب ما تكون إلى البذرة إذا لم تنبت الآن بحساب علم النباتات فإنها تنبت في المستقبل بحساب علم الأفكار

ولكن هذا يجب ألا يدعونا لليأس ولا للإحباط، ويجب أن نظل نتحلى بالروح التي تحلى بها وزير الثقافة السابق وهو يطرح فكرته، ثم وهو يتمسك بها، ثم وهو يأسى على أنها لم تصادف صدرًا رحبًا لدى زملائه ولا صادفت عندهم آذانًا صاغية.

فالفكرة تظل أقرب ما تكون إلى البذرة التي يلقيها صاحبها في الأرض، غير أنّ الفكرة إذا لم تنبت الآن بحساب علم النباتات، فإنها تنبت في المستقبل بحساب علم الأفكار.. هذا إذا جاز أن يجمع الأفكار علم مستقل بذاته، أو أن يكون لها علم نعرفه بها ونعرفها به، ثم نشير إليهما معًا في جملة مفيدة واحدة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن