صحيح أنّ ردّ "حزب الله" على اغتيال شكر، كان أفضل إخراجًا من ردّ إيران على قصف قنصليتها في دمشق، لكنه لم يكن البتة بحجم حرب الاستنزاف النفسية التي قادها زعيم "حزب الله" منذ اغتيال شكر، سيّما وأنّ ردّ الحزب الموعود وبخلاف الردّ الايراني السابق والغموض الذي اكتنف توقيته، ساهم في تضخيم التهديدات والتهويلات والضغوط بحرب إسرائيلية مدجّجة بجبهة إسناد أمريكية غربية لا تبقي ولا تذر.
توقيت الردّ الذي اتضح بفعل التصريحات الإيرانية المكثّفة أنه لن يكون متزامنًا مع ردّي ايران والحوثيين على اغتيال زعيم حركة "حماس" اسماعيل هنية في طهران وقصف مرفأ الحديدة اليمني، انكشف قبل أكثر من 24 ساعة من ساعة الصفر.
أتى ردّ "حزب الله" متعارضًا مع أجواء التهويل والتهديد التي سبقته
فليس تفصيلًا بسيطًا أن يغيب "حزب الله" عن ذكرى "أربعينية الحُسين" بما تمثّله من مناسبة لاستحضار مسيرة الحُسين التي تحضّ على الثأر والانتصار للمظلوم والمظلومية. ولطالما شكلت أربعينية الحُسين، مناسبة ومنصّة سنوية لزعيم "حزب الله" لإطلاق المواقف السياسية والتعبوية المطلوبة. وبات واضحًا أنّ الحزب اختار إحياء معمودية ميدانية تتمثّل باعتماد مبدأ "الثأر للمظلوم" بدل الاحتفال التقليدي، فقرّر اختيار "أربعينية الحُسين" كساعة صفر الردّ الموعود على قصف الضاحية الجنوبية واغتيال شكر، بعد حوالى 26 يومًا من حرب الاستنزاف النفسية والميدانية التي خاضها الحزب ضد "إسرائيل"، وفق عقيدة الصبر والتأني والحكمة والهدوء كما صرّح نصرالله في سياق وعيده وتهديده وتأكيده أنّ الردّ قادم، وأنّ انتظار الردّ جزء من الرد.
وفق هذا السياق السياسي الديني أتى ردّ "حزب الله" متعارضًا مع أجواء التهويل والتهديد التي سبقته، وقد أسهب السيد نصرالله في شرح تفاصيل عملية الردّ والأهداف التي حققتها، كما وفي تفنيد ودحض وتكذيب ادعاءات نتنياهو وجنرالاته وخصوصًا الغارات الاستباقية التي شنّتها المقاتلات الإسرائيلية على عدة مواقع جنوبية تمّ إخلاؤها بحسب نصرالله. وعليه فالردّ بقصف قاعدتي "غليلوت وعين شيمر" قابله نفي غالانت وجنرالات جيش الاحتلال، ما دفع نصرالله لترك باب استئناف الردّ مواربًا إذا ما تبيّن أنّ الردّ غير مرض ولم يؤتِ أكله.
يرجّح أن يكون الردّ الايراني على اغتيال هنية على شاكلة رد "حزب الله" على اغتيال شكر
بات شديد الوضوح أنّ استراتيجية "حزب الله" تقوم من خلال الردّ على استعادة مبدأ الردع الذي اختطفته "إسرائيل" عبر ثالوث "الحديدة – شكر - هنية"، وإعادتها الى قواعد الاشتباك السابقة، بدليل إبراز نصرالله لأهمية قاعدة "غليلوت" العسكرية والأمنية وأيضًا الجغرافية. فقد اختيرت قاعدة الاستخبارات العسكرية "غليلوت" بعناية لأنها تقع في ضاحية تل أبيب الشمالية، الموازية لضاحية بيروت الجنوبية، علمًا بأنّ المعادل لاغتيال شكر بشريًا وجغرافيًا هو مقرّ الأركان الاسرائيلية، وبدا نصرالله كمن يحمل آلة قياس المسافات لتثبيت الردع التناظري بين قوى غير متناظرة، وهي معادلة إذا ما نجح الحزب في إرسائها يكون بدون شك حقّق نتيجة نسبية في توازن الردع، ولو من دون الثأر لقائده العسكري فؤاد شكر. لكن نصرالله في نهاية خطابه بدا كمن يتنفس الصعداء، معتبرًا أنّ الأمر انتهى، ومطالبًا بالعودة إلى البيوت واستئناف العمل والحياة الطبيعية.
وتأسّيًا بردّ الحزب على اغتيال شكر، يرجّح أن يكون الردّ الايراني على اغتيال اسماعيل هنية على شاكلته، سيّما وأنّ حكومة مسعود بزكشيان التي نالت الثقة المطلوبة قد أكدت التزامها بالردّ على الاغتيال الذي وقع في بيتها، لكن المسألة دونها حسابات معقّدة متعلقة خصوصًا بقرب انتهاء مدة الافتكاك الزمني من الشروط النووية، فهل تُنحّي إيران جانبًا صواريخها الصوتية وتُفعّل صواريخها البالستية؟.
عند مثل هذه الحسابات الدقيقة المبنية على غزل مستجد يقوده وزير خارجيتها عباس عراقتشي مع نظرائه الأوروبيين لتفعيل التواصلات بالخصوص، ينبغي انتظار التوازنات التي ستصيغها إيران والتي ستنعكس على نفوذها الإقليمي القائم خصوصًا على حركات المقاومة في المنطقة ونظرية وحدة محور المقاومة الذين اعتبرهم وزير الدفاع الإيراني الجديد جزءًا رئيسًا من قوة إيران.
صاروخ "كتائب القسّام" محمّل برسالة لـ"حزب الله" تقول كان يُفترض بك استهداف تل أبيب
من أسباب تأجيل ردّ "حزب الله" إفساح المجال أمام المفاوضات حتى لا يُحمّل مسؤولية إفشال إنتاج صفقة لوقف إطلاق النار، وها هي مفاوضات القاهرة تنفض دونما التوصل للاتفاق المطلوب بفعل تعنّت نتنياهو وإصراره على عدم الاخلاء الكامل لـ"محور فيلادلفيا" الأمر الذي ترفضه "حماس" والمقاومة الفلسطينية، كما ترفضه مصر لأنّه يشكل اختراقًا وتجاوزًا على اتفاقية "كامب ديفيد" وملاحقها الأمنية التي تنصّ على عدم تواجد قوات الاحتلال في المحور والمعبر.
عند هذا الحدّ كان لافتًا الدوي السياسي والإعلامي الذي أحدثه صاروخ "كتائب القسّام" (مقادمة 90) الذي استهدف تل أبيب منطلقًا من خانيونس في قطاع غزّة والمحمّل برأس متفجر ورسالة مزدوجة.. أولها لبنيامين نتنياهو ومَن خلفه تقول بقدرة المقاومة الصاروخية على استهداف تل أبيب وعمق الكيان. والرسالة الثانية، لـ"حزب الله" تقول "نحن نتعرّض لما يشبه الاجتثاث وقصف تل أبيب أسهل علينا من شربة ماء كما سبق وصرّح يحيى السنوار" وكان يفترض بك استهداف تل أبيب، كما سبق وفعل الحوثيون بحسب ما عبّرت عنه تصريحات مقرّبين من "حماس" على قنوات التلفزة، ما دفع الحزب متأخرًا إلى اعتبار عملية "يوم الأربعين" في إطار عمليات الإسناد للمقاومة الفلسطينية في غزّة!.
(خاص "عروبة 22")