تقدير موقف

"محور فيلادلفيا".. وشرعية نظام الحكم في مصر

يواجه النظام السياسي المصري حاليًا أصعب اختبار له منذ اندلاع "طوفان الأقصى"، فلأول مرة منذ ما يقرب من عام تصبح خيارات الحكم في القاهرة إزاء هذا النزاع أمرًا يتجاوز السياسة الخارجية وموقفه الحذر من المقاومة الفلسطينية إلى خيارات سياسة داخلية تتعلق بالكرامة والسيادة الوطنية. خيارات سيكون لها مردود على شرعية النظام ومنسوب الرضا العام عنه، وهو منسوب يعرف الجميع أنه يتجه للانخفاض بشكل متزايد.

لا جديد في علاقة شرعية النظم العربية بالصراع مع إسرائيل والقضية الفلسطينية منذ حرب ٤٨، خاصة ما عُرفت بدول المواجهة، لكن الحالة المصرية هنا حالة خاصة، إذ إنّ من أولى القضايا التي مست شرعية النظام المصري الحالي ودشنت عملية متدرجة لتراجع الثقة العامة في إدارته للأمور كانت قضية لها علاقة بالصراع العربي/الإسرائيلي، وهي تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية في ٢٠١٧، وهما جزيرتان إستراتيجيتان قدّم الجيش المصري تضحيات ودماء شهداء فداء لهما. ويمثل هذا الحدث حساسية شديدة وجرحًا لم يلتئم عند كثير من المصريين مما يضع ضغوطا على صانع القرار.

هذه الضغوط تهدد التوازن الذي تمكنت القاهرة من ممارسته خلال الـفترة المنقضية من الحرب والمتمثل في الحفاظ على قنوات اتصال وتأثير على "حماس" بما يحفظ لها دورًا أساسيًا في المفاوضات، وفي الوقت نفسه عدم الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة وإسرائيل رغم الاستفزازات المتكررة للكرامة المصرية من رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو.

أيّ تنازل رسمي مصري عن مطلب الانسحاب من فيلادلفيا قد يمثّل مسًا بشرعية الحكم وقدرته على الحفاظ على السيادة

المشكلة الآن أنّ استفزازات نتنياهو لمصر أمام شعبها والإقليم باتت علنية وفجة لدرجة بات معها غير كاف بالمرة ذلك الأسلوب القديم في تجاهلها أو تهدئة خواطر الرأي العام بأنّ اللجان المشتركة قادرة على حلها أو حتى استبدال وزير الخارجية المصري السابق بوزير جديد ذي خطاب سياسي منضبط وأفضل نسبيًا من سابقه.

صحيح أنه رغم أنّ احتلال إسرائيل لمعبر رفح ومحور فيلادلفيا بما يمثّله من انتهاك لاتفاقية كامب ديفيد وبروتوكول فيلادلفيا في ٢٠٠٥ تم منذ مايو/أيار الماضي، إلا أنّ نتنياهو لم يتحد مصر علنًا إلا في الشهر الأخير.

فمع رغبته في إفساد أي فرصة للوصول لاتفاق أعلن أنه لن ينسحب من الممر، أدرك المصريون بوضوح أنّ نتنياهو يغيّر في اتفاقيات السلام وملاحقها من طرف واحد في استهتار كامل بالجميع.

تعرف إسرائيل أنه غير مسموح لها - بمقتضى الاتفاقيات مع مصر - احتلال المعبر والمحور، الأخطر من ذلك أنّ نتنياهو يقول بذلك إنه مستمر في احتلال القطاع، مما يعني أنّ مخطط تهجير الفلسطينيين إلى مصر ما زال قائمًا خاصة وقد أفصحت مصادر في حكومته المتطرفة عن خطة لفصل شمال غزّة عن جنوبها الذي حُشر فيه نحو ٢ مليون فلسطيني ودفعهم إلى التهجير مما يشكّل تهديدًا جسيمًا للأمن المصري.

لم يعد النزاع حول اتفاق وقف إطلاق النار فلسطينيًا/إسرائيليًا عبر الوسطاء، ولكن صار في الأسابيع الأخيرة نزاعًا مصريًا/إسرائيليًا مباشرًا.

الموقف المصري المعلن حتى جولة الدوحة كان الإصرار على انسحاب تام للقوات الإسرائيلية من المحور والمعبر، لكن تدخل بايدن طرح تسريبات عن قبول مصري لانسحاب جزئي وتدريجي يقبل بوجود إسرائيلي مستمر ولكن منخفض في المحور. أما معبر رفح فموقف مصر هو عدم قبول وجود إسرائيلي على هذا المعبر، مع الموافقة على العودة لاتفاقية المعابر ٢٠٠٥.

التحدي هنا أنّ أيّ تنازل رسمي مصري عن مطلب الانسحاب من فيلادلفيا من المرجح أن ينظر إليه من الجمهور كنوع من التهاون في مسألة تهدد الأمن القومي، ومن ثم فإنه قد يمثّل مسًا جديدًا بشرعية الحكم وقدرته على الحفاظ على السيادة، خاصة مع حالة القلق الشعبي من عدم حسم تهديد سد النهضة حتى الآن.

أي تنازلات في سيطرة النظام المصري على معبر رفح ستؤثر سلبًا على قدرته على حل أزمته الاقتصادية المزمنة

التحدي الآخر هو أنّ استمرار الإسرائيليين في رفض كل الحلول الخاصة بمعبر رفح هو بمثابة حرمان مصر من أهم ميزاتها الجيوسياسية في الإشراف على المعبر الوحيد مع غزّة، هذا الإشراف يمنحها القدرة على التأثير على الفلسطينيين ويمنحها بالتالي الدور الذي يجعل الولايات المتحدة والغرب وحتى إسرائيل يسعون إليها للتوسط في المفاوضات.

هذه الميزة الجيو-سياسية بالنسبة لغزّة مع ورقة أخرى منحها أيضًا الموقع الجغرافي لمصر، هي ورقة ضبط الهجرة العربية-الأفريقية غير الشرعية لأوروبا، وهما الورقتان الباقيتان لمصر في الدور الإقليمي الذي ارتضته ويصعب عليها التفريط فيهما.

فإذا كانت شرعية النظام سياسيًا ستتأثر سلبًا بأي تنازلات في موضوع محور فيلادلفيا، فإنّ أي تنازلات في سيطرته على معبر رفح - وسيلته الرئيسة للتأثير منحُا ومنعُا للفلسطينيين وسيطًا بينهم وبين الإسرائيليين - ستؤثر سلبًا على قدرته على حل أزمته الاقتصادية المزمنة.

إذا كانت الدولة المصرية قد تعلّمت درسًا من "طوفان الأقصى" فهو أنها ما زالت رغم كل ما جرى دولة محورية تستطيع أن تبادل دورها في الأزمات الإقليمية بالحصول على مساعدات وقروض واستثمارات. فلقد ظلت مصر تئن بصوت عالٍ لمدة سنتين بعد الحرب الأوكرانية وليس هناك من مجيب، فلم ترَ دولارًا واحدًا من أشقائها الخليجيين ولا حلفائها الغربيين، وفجأة وعندما بدت الحاجة إلى دورها في منع نشوب حرب شاملة في المنطقة من جهة والحاجة إلى ممارسة تأثير وضغط على الفلسطينيين من جهة أخرى، انهال عليها نحو خمسين مليار دولار في أقل من شهرين وتراجع صندوق النقد الدولي عن تجميد الاتفاق معها ومنحها ٨ مليارات دولار جديدة وتعهد الأوروبيون في مؤتمر للاستثمار بـ7 مليارات دولار أخرى.

المتحكّم في قرار المانحين والمؤسسات واشنطن وهي متماهية مع نتنياهو بسبب ظرف الانتخابات الأمريكية

حتى بمعيار المصالح النفعية وعدم إضافة عوامل جديدة لعدم الاستقرار ليس من مصلحة مصر تقديم تنازلات لإسرائيل في قضيتي رفح وفيلادلفيا. التحدي هنا أنّ المتحكّم في قرار المانحين العرب والأوروبيين والمؤسسات هي واشنطن والتي قد تلوح بهذه الورقة للضغط على القاهرة لتقديم تنازلات خاصة وهي متماهية تمامًا مع نتنياهو الآن بسبب ظرف الانتخابات الأمريكية.

بعد انتهاء جولة القاهرة الأخيرة سرّبت المصادر الرسمية المصرية أنّ المفاوضات لم تحقق تقدمًا وأنّ مصر لم تقدّم تنازلات في تلك الملفات.

لن ننتظر كثيرًا حتى نعرف حدود قدرة القاهرة على حماية مصالحها في ظل أزمة اقتصادية طاحنة وضعت نفسها فيها فضيّقت واسعًا في هامش حرية قرارها السياسي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن