وضع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان هدفاً واضحاً لحكومته الجديدة: تحقيق نمو مقداره 8%! طموح هذا الرئيس الجديد كبير، فهو يريد أن يُعيد بلاده إلى المستوى "الإنقاذي" الذي كانت قد عرفته، مرّة واحدة، على مدى عشرات السنوات، وذلك في عام 2016، عندما دخل الاتفاق النووي حيّز التنفيذ، وبدأت الاستثمارات تتهافت على إيران من كافة أرجاء العالم، ولا سيما من دول الاتحاد الأوروبي!
قبل انتخاب بزشكيان، وفي ظلّ حكومة إبراهيم رئيسي الذي قُتِل في تحطّم مروحيته، وصلت إيران إلى "حافّة الهاوية"، على الرغم من غضّ نظر الإدارة الأميركية عن القيود المالية والتجارية المفروضة على طهران. كانت توقّعات البنك الدولي تشير إلى أن "الجمهورية الإسلامية" التي تعاني من اختناقات مالية واقتصادية وحياتية واجتماعية تتّجه في مسار سريع نحو الجحيم.
لم تكن المصالحات الإقليمية التي توصّلت اليها طهران مع دول الجوار، ولا سيما المملكة العربية السعودية، ولا الاتفاقيات الاستراتيجية التي أبرمتها مع كل من الصين وروسيا، ولا دخولها في "البريكس"، تُجدي نفعاً. أمام هذه الوقائع، وجد مرشد الجمهورية علي خامنئي نفسه مضطراً لأن يتراجع خطوة نوعية إلى الوراء، فوافق على أن يستبدل رئيسي المتشدّد ببزشكيان "المعتدل".
لم يقدّم بزشكيان نفسه تغييريّاً، بل "إنقاذيّاً". تعاطى مع المرشد على أنّه مرشده هو. شكّل حكومة يرضى عنها، ووضع سياسة تحظى بمباركته، وحدّد هدفاً يستحيل تحقيقه من دون دعمه! ترك بزشكيان البزّة العسكرية للحرس الثوري الإيراني، كما اللباس الشرعي للملالي، وبدأ بقيادة "الإنقاذ" الذي يحتاج إلى أن يكون المرشد والعسكر والثوّار والملالي في تناغم! مرّر "جرّاح القلب" إيران المريضة أمام السكانر، فارتأى أنّها تحتاج إلى جرعة عاجلة من النمو مقدراها 8%. جرعة غير ممكنة في وضعية "الجمهورية المريضة" الحالية. لتوفيرها، تحتاج السياسة إلى أن تحقّق خطوات نوعية، بحيث تستقطب استثمارات خارجية مقدارها 100 مليار دولار.
وهذه الأموال متوافرة حصراً بالتواصل المقنع مع الدياسبورا الإيرانية في الخارج، وبإقامة علاقات منتجة مع "جيراننا"، وتخفيض التوتر مع المجتمع الدولي. باختصار، ثمة حاجة ملحّة إلى العودة لما هو أكثر أهمية من معادلات عام 2016. هذا الطموح النظري يحتاج، بطبيعة الحال، إلى "خريطة طريق". الواضح أن حجر الزاوية في هذا المسار هو الولايات المتحدة الأميركية، انطلاقاً من الملف النووي وكل ما له صلة بالملفات الداخلية! كان خامنئي في صورة هذه الحقيقة، ففتح الباب لإمكان "التفاوض مع العدو"، مقدّماً لذلك كل المبررات الدينية التي تُجيز "التراجع التكتيكي" في "المعركة التي لا نهاية لها بين الحسينية واليزيدية"!
وبناءً عليه، أعطى بزشكيان، في 31 من آب (أغسطس) الماضي، أوّل مقابلة تلفزيونية له، كشف فيها عن ضرورة تحقيق نمو بمقدار 8%، والحاجة إلى توفير استثمارات خارجية بقيمة 100 مليار دولار، الأمر الذي يفترض "انفتاحاً" على الخارج! ماذا يعني ذلك؟ منذ تسلّمه رئاسة الجمهورية، وقف بزشكيان ضدّ تنفيذ أي هجوم على إسرائيل، انتقاماً لمقتل رئيس حركة "حماس" إسماعيل هنية، بعد ساعات قليلة على مشاركته في حفل تنصيبه، حيث أخذه في الأحضان. وطلب عدم تعريض إيران لمخاطر التورّط المباشر في حرب إقليمية لا تملك القدرات الفعلية على تحمّل تبعاتها، خصوصاً مع استنفار الولايات المتحدة الأميركية.
عرض بزشكيان أن تبقى الحرب مع إسرائيل بالوكالة، من خلال التنظيمات الموالية لها، ولا سيما في لبنان وفلسطين. بالنسبة إلى بزشكيان، بقاء إيران في "القيادة من الخلف" يوفّر لها مكاسب "تفاوضية"، بينما دخولها المباشر في الحرب يضعها أمام كلفة لا تُحتمل! ولم يخرج بزشكيان لإعلان خططه الاقتصادية – السياسية – الديبلوماسية، إلّا بعدما بدا له أن خامنئي اعتمد وجهة نظره "الحربية". المشكلة في تطلّعات الرئيس الإيراني أنّها فيما تقدّم مصلحة إيران إلى الواجهة، ترمي بمصالح الآخرين في الهاوية. ولبنان هو النموذج.
يحتاج لبنان أكثر من إيران إلى معالجة الكوارث المالية والاقتصادية والاجتماعية والحياتية والسياسية والديبلوماسية. وهو، وفق ما يجمع عليه الخبراء، لا يستطيع أن يفعل ذلك ما دام يخوض حرباً بالوكالة عن إيران. وفي حال أمعن "حزب الله" في إبقاء الحرب الحدودية مفتوحة، وبغضّ النظر عن مخاطر توسعها، فإنّ الكارثة اللبنانية ستأخذ، في القريب العاجل، أبعاداً أكثر مأساوية. وفي هذه المرحلة التي يشتري فيها بزشكيان رضا المتشدّدين من خلال دعم حروبهم بالوكالة، فإنّ الأضرار الناجمة عن مخطّطاته ستكون كبيرة على الدول الساقطة تحت هيمنة "الحرس الثوري".
لكن، يمكن الدول التي يُضحي بها بزشكيان أن تخفف عنها الخسائر، في حال تعاضد المجتمعان السياسي والمدني فيها، لتحقيق هدفين أساسيين، هما: الضغط الداخلي لوقف "الحرب البديلة" من جهة، والضغط الخارجي لربط أي تعاون دولي مع إيران، بوقف ما يسمّى "نشاطها الخبيث" في الإقليم. وهذا ليس ممكناً فحسب، بل ضروري أيضاً، وإلّا فإنّ مخاطر بزشكيان على الدول الملحقة عنوة بالمحور الإيراني ستكون أكبر من مخاطر المتشدّدين. فهو يريد أن يقرّش الاستثمار بـ "جبهة المقاومة" لمصلحة إيران "أوّلاً وأخيراً"، بحيث يتقاضى الأثمان الباهظة من التجارة بأنقاض أربعة شعوب وجثثهم!