هاريس، التي يصفها منافسها الشرس دونالد ترامب بـ"الرفيقة" كامالا، في محاولة لتصويرها أنها شيوعية تتبنى أفكار "التقدّميين" في الحزب الديمقراطي المعادين لإسرائيل، أكدت رفضها القاطع لأهم مطلب لهؤلاء "التقدّميين" أنفسهم، وهو إعادة النظر في تدفق الأسلحة التي لا تتوقف للكيان المحتل والتي قتلت حتى الآن ما يقترب من 41 ألف شهيد فلسطيني وأصابت نحو مائة ألف.
كما أنّ "التقدّميين" في الحزب الديمقراطي، ورغم كل ما قيل من تأثيرهم داخل الحزب، لم يتمكنوا من أن يقنعوا قادته بأن يمنحوا الأمريكيين من أصل فلسطيني والمؤيدين لعدالة القضية الفلسطينية ولو دقائق قليلة في المؤتمر العام للحزب الذي أقر ترشيح هاريس لمنصب الرئاسة مؤخرًا لكي يقولوا أنهم بشر أيضًا ويذكّرون الدولة التي تقود العالم أنّ ما يتعرّض له الفلسطينيون يتناقض مع أي مبادئ لها صلة بالمساواة بين البشر في الحقوق. وكان أقصى ما تم السماح لهم به هو تنظيم ندوة على هامش المؤتمر كي يتحدثوا عما يتعرّض له أهل فلسطين من قتل ومعاناة.
وقف توريد السلاح الأمريكي الذي يقتل الفلسطينيين لن يحدث أبدًا لو أرادت الاحتفاظ بأي منصب عام في الولايات المتحدة
بالطبع هذا الحظر على صوت فلسطين، لم يتم تطبيقه على أسرة أحد المختطفين والذي يحمل الجنسية الأمريكية-الإسرائيلية وتحتجزه حركة "حماس" في غزّة والذين تم استقبالهم استقبال الأبطال في مؤتمر الحزب الديمقراطي، ونقلت محطات التلفزيون الدموع وهي تنهمر من الحضور وتصفيق حماسي مع ترديد هتاف "أعيدوهم لبيوتهم"، وعندما تعالت أصوات بعض المندوبين بشعار "أوقفوا حرب الإبادة" كان يتم التشويش عليهم سريعًا بهتافات مؤيّدة لهاريس، لكي لا يتم إفساد أجواء الحماس والتوحّد حول المرشحة التي ينحصر فيها أملهم لمنع انتصار عدوهم اللدود، ترامب.
المرشحة الديمقراطية التي تحاول الآن تأكيد مواقفها الوسطية المعتدلة لنفي مزاعم الجمهوريين أنها "راديكالية"، تعلّمت غالبًا الدرس من الرئيس بايدن نفسه. ففور أن ألمح إلى أنه قد يعيد النظر في تقديم بعض الأسلحة "الهجومية" للعدو، مع التزام قاطع بتوفير كل ما يحتاجونه من الأسلحة "الدفاعية"، واتخذ بالفعل قرارًا بتجميد شحنة يتيمة وحيدة من القنابل الغبية التي استخدمها جيش الاحتلال بكثافة في بداية حرب الإبادة في غزّة، تعرّض لهجمة شرسة من المؤسسات المتحكمة في السياسة الأمريكية والتي يتمتع فيها اللوبي المؤيد للكيان الصهيوني بنفوذ واسع.
ولتهدئة هذا الهجوم، تم دفع الكونجرس إلى إقرار قانون يقدّم مساعدات عسكرية سخية بقيمة 14 مليار دولار لجيش الاحتلال، كما تم توجيه دعوة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كي يلقي خطاب "نيرون المجنون" من منبر الكونجرس نهاية شهر يوليو/تموز وسط عاصفة تصفيق لا يتوقف من غالبية النواب الطامعين في الاحتفاظ بمقاعدهم والعارفين بمدى قدرة اللوبي الصهيوني ومنظمة "إيباك" على وأد طموحهم.
كما أنه من المؤكد أنّ هاريس الساعية للفوز بالرئاسة بكل شكل وطريقة لن تكون أكثر شراسة من نجم الحزب الديمقراطي، الرئيس السابق باراك أوباما، والذي وصل التدهور في علاقته الشخصية مع نتنياهو أيضًا إلى مستوى لم يصل من قبل، خاصة مع الخلاف الحاد بشأن توقيع الاتفاق النووي مع إيران. وكان أقصى ما استطاع أوباما أن يقوم به قبل خروجه من البيت الأبيض، وبعد إعلان فوز ترامب، أن يمتنع عن استخدام "الفيتو" على قرار أصدره مجلس الأمن يدين النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة ويؤكد عدم شرعيته.
ربما طربت أذن البعض، ومنهم كاتب المقال، عند الاستماع لهاريس تقول علنًا، في مؤتمر الحزب الديمقراطي، وفي مقابلة "سي أن أن" إنها تؤيد "حق الفلسطينيين في تقرير المصير"، المصطلح الذي نردده نحن العرب بشكل يومي تقريبًا منذ نشأة الكيان المحتل والذي لا يعني سوى تأكيد حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.
تصريحاتها المفرطة في انحيازها للعدو لن تترك مجالًا للعرب والمسلمين الأمريكيين سوى أن يتمسّكوا بـ"عدم الالتزام"
لكن يبدو أنّ استخدامها هذا المصطلح وكذلك التعبيرات العاطفية من قبيل أنّ "الكثير من الفلسطينيين قد قُتلوا، ويجب أن تتوقف الحرب الآن" هو من قبيل كلمات الأغنية الشهيرة للفنانة الراحلة صباح "كلام كلام كلام وبس، مبخدش منك غير كلام" كما كان حال بايدن أحيانًا، ومن قبله أوباما. أما وقف توريد السلاح الأمريكي الذي يقتل الفلسطينيين كل يوم فهذا لن يحدث أبدًا لو أرادت هاريس ليس فقط الفوز، ولكن الاحتفاظ بأي منصب عام في الولايات المتحدة، بما في ذلك الرئاسة.
تصريحات هاريس الصادمة والمفرطة في انحيازها للعدو لن تترك مجالًا غالبًا للعرب والمسلمين الأمريكيين الذين يعتبرون قضية فلسطين وإنهاء الاحتلال أولوية سوى أن يتمسكوا بموقفهم الذي أعلنوه قبل انسحاب بايدن ونجحوا في تنفيذه في ولايتي ميتشغان وويسكنسون بـ"عدم الالتزام" بالتصويت لصالح مرشحة الحزب التي لا تعتبرهم بشرًا متساويين في الحقوق، حتى لو هدد ذلك فرصها في الفوز بمنصب الرئاسة أمام ترامب. وسيكون على "المعتدلة الوسطية" كامالا أن تسعى للفوز في ولايات "متأرجحة" أخرى لا يقطنها نسبة معتبرة من العرب والمسلمين الأمريكيين.
(خاص "عروبة 22")