بصمات

المفكّرون العرب والمشاريع الاستراتيجية الإيرانية والتركية والإسرائيلية! (2/2)

تطرقنا في الجزء الأول من هذا المقال إلى مرجعية أحداث 2011 التي مرّت منها المنطقة العربية، في سياق قراءة تفاعل الأقلام الفكرية العربية مع الإكراهات التي تواجه العقل السياسي العربي، ومنها إكراه تدبير مواجهة ثلاثة مشاريع إقليمية: المشروع التركي والمشروع الإيراني والمشروع الإسرائيلي، ونخصّص هذا المقال لمزيد تدقيق في مواقف هذه الأقلام، خاصّة أنّها لعبت دورًا ما، بشكل أو بآخر، في التأثير على نسبة من مخيال شعوب المنطقة، عبر وساطات قامت بها منصّات إعلامية على الخصوص.

المفكّرون العرب والمشاريع الاستراتيجية الإيرانية والتركية والإسرائيلية! (2/2)

يمكن حصر أهم مواقف النخب الفكرية حينها في اتجاهين اثنين:

- الأول يرى أنّنا إزاء "فوضى خلاقة" (بتعبير أحد عناوين مجلة "شؤون خارجية" الأميركية)، وبالتالي لا يمكن المصادقة على هذه الفوضى فالأحرى الدفاع عنها، ومرّت بضع سنوات لتتضح وجاهة هذا الخيار، حتى لو كانت وجاهة نسبية، بحيث انتقلت ليبيا من حالة دولة بقيادة واحدة وحكومة واحدة، نحو دولة تتناحر فيها قوى محلية وإقليمية حول اتخاذ القرار. أمّا اليمن، فقد انتقلت إلى مقام "الدول الفاشلة"، ضمن أمثلة أخرى، وطيلة أشهر، كان المشهد يبدو أشبه باحتمال معاينة "تأثير الدومينو" على العديد من أنظمة المنطقة، لولا ظهور مقاومات دولاتية ضد خيار "الفوضى الخلاقة" هذا.

متى كان من مصلحة القوى العظمى أو مصلحة المشاريع الإقليمية أن تكون دول المنطقة العربية على قول واحد؟

وعِوض الدفاع عن خيار التصدي لمزيد تفكيك المنطقة، أو تكرار نسخة جديدة وأكثر تفكيكية لاتفاقيات سايس بيكو، انخرطت عدة أقلام ومن عدة مرجعيات في شيطنة الدول العربية التي تصدت لخيار التفكيك، إلى درجة الحديث عن انقلابات مضادة ضد هذا "الحراك"، دون أن تتطرّق هذه الأقلام إلى دور السياقات الدولية التي كانت حاضرة في ثنايا تلك الأحداث: متى كان من مصلحة القوى العظمى أو مصلحة المشاريع الإقليمية الثلاثة: التركية والإيرانية والإسرائيلية، أن تكون دول المنطقة العربية على قول واحد في الفعل والممارسة؟.

ليس صدفة أن تكون أغلب المرجعيات الفكرية التي رفضت الحديث عن "فوضى خلاقة"، تنتمي إلى مشاريع "الإسلام السياسي"؟ بما يُحيلنا على الاتجاه الفكري الثاني في معرض التفاعل مع أحداث 2011.

- تبنّى الاتجاه الثاني خيار الحديث عن "ربيع عربي"، وفي مقدّمة هؤلاء التيار الإسلامي الحركي، وتيار "يسار الإخوان"، والمقصود بظاهرة "يسار الإخوان"، حالة أقلام فكرية تنهل من مرجعية يسارية، تحالفت مع الإسلاميين، وخاصّة تيار "الإسلام السياسي"، ضد أنظمة المنطقة، لاعتبارات عدّة، من قبيل العمل بقاعدة "عدو عدوي صديقي"، أو الرغبة في تصفية حسابات أيديولوجية أو استغلال الفورة الإسلاموية التي مرّت منها المنطقة قصد تقويض الأنظمة السياسية أو اعتبارات أخرى.

في هذا السياق، نقرأ دلالة إطلاق أحد الإعلاميين من المحسوبين على مشاريع "الإسلام السياسي"، سلسلة وثائقية تحت عنوان "الربيع الأول"، في محاولة إسقاط مع جرى إبان الحقبة النبوية على أحداث 2011. أمّا الشيخ يوسف القرضاوي، فقد وصل به الأمر إلى درجة إصدار رأي شخصي، اعتبره بعض الإسلاميين بأنّه فتوى، مضمونه "الترخيص" للقوات الأميركية بإسقاط نظام معمر القذافي، دون الحديث عن مواقف أخرى لأسماء فكرية هذه المرة، من قبيل أبو يعرب المرزوقي وموقفه من أحداث سوريا، أو موقف طه عبد الرحمن الذي انخرط في شيطنة بعض الدول الخليجية، مقابل التنويه بالنظام التركي، بل شيطن الدول العربية المطبّعة مع المشروع الإسرائيلي، لكنه اعتبر النظام التركي نفسه، نموذج الحكم الإسلامي الأكثر صوابًا في الساحة، كأنّ المشروع التركي غير مُطبّع مع المشروع الإسرائيلي، ضمن أمثلة أخرى.

واضح أنّ موقف هذه الأسماء وغيرها من المشاريع العربية كان دون مستوى دائرة صناعة القرار، ما دام قد وصل بها الأمر إلى التنويه بالمشاريع التركية أو الإيرانية، أو الانخراط في تأزيم علاقات الساحة بين دول عربية، من قبيل الدفاع عن دولة عربية ضد دول عربية مجاورة، أو رفع شعار هذا "ربيع حلال" وآخر "ربيع حرام"، وممارسات فكرية غير سوية من هذه الطينة.

موقف القرضاوي من أحداث ليبيا هو الموقف نفسه للناشط الفرنسي برنارد هنري ليفي "عرّاب الفوضى الخلاقة"

مؤكد أنّه من حق هذه الأسماء تبني مواقف سياسية صريحة أو غير مباشرة من أحداث الساحة وبالتالي تبني مواقف سياسية من أنظمة المنطقة، لكن كان عليها في الآن نفسه، أن تأخذ بعين الاعتبار أنّه لكل موقف سياسي ما تبعات مُعيّنة، وغالبًا ما تكون صورة هذا الاسم أو غيره لدى الرأي العام العربي، مختلفة بين مرحلة ما قبل تبني هذا الموقف السياسي ومرحلة الما بعد.

من يصدق أنّ موقف الشيخ يوسف القرضاوي من أحداث ليبيا 2011، هو الموقف نفسه للناشط الفرنسي برنارد هنري ليفي من أحداث فرنسا، وهو الناشط الأوروبي الذي لُقب بأنّه "عرّاب الفوضى الخلاقة": كان الاختلاف في النوع، ولم يكن الاختلاف في الدرجة، أي الاختلاف في المرجعية (إسلامية ــ يهودية)، والاتفاق في درجة شيطنة النظام.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن