تقدير موقف

الأردن ومصر.. وأيديولجيات نتنياهو "القاتلة"

"الأيديولوجيات القاتلة"، عبارة تسلّقها بنيامين نتنياهو ليصوّر المشهد القاتم الذي يحيط بالكيان المأزوم. ثمّة من أقنعه بأنّ إطلاقه النار على "الإيديولوجيات القاتلة" التي تتزعمها إيران سيخفّف من أزمة الكيان الوجودية. فتلميذ جابوتنسكي يجيد صوغ الشعارات السياسية بدوغمائية مُسقطة في الانقلاب على كل وصفات الصفقات التي يجهد الرئيس الأمريكي لتقديمها كحل توافق عليه إسرائيل أولًا، وسرعان ما ينقلب عليها بايدن بعد تحمليه بلسان جون كيربي حركة "حماس" مسؤولية الانقلاب عليها بسبب "المطالب المبالغ فيها" والتي دحضتها "حماس" وكرّرت التزامها مبادرة بايدن التي أطاح بها نتنياهو ولم يزل.

الأردن ومصر.. وأيديولجيات نتنياهو

"الأيديولوجيات القاتلة" كما أطلقها نتنياهو تصويبًا على إيران، تستظهر الإيحاء بتحالف غير مُضمر مع دول عربية مهدّدة ومستهدفة من "فوبيا إيران". ولهذا يقتنص نتنياهو كل فرصة لإيهام بعض العرب أنّه يستهدف إيران نيابةً عنهم. وكأنّ القضية الفلسطينية باتت قضية إيرانية لا علاقة للعرب فيها، وكأنّهم وفق إيحاءات نتنياهو قد غسلوا أيديهم من فلسطين القضية والشعب والمقدّسات، وينتظرون مراسم دفنها.

تطورات الأردن الجديدة سترخي بظلالها على الوضع الملتهب في المنطقة

واذا كانت الحرب تُخاض لأهداف سياسية بأدوات عسكرية، فلا شيء يدلّل على صوابية المقولة انطلاقًا من سلوك الاحتلال. فنتنياهو المفتون باستعراض خرائطه اللاغية لكل ما يمتّ لفلسطين بصلة، وسّع مروحة الحرب باتجاه الضفة الغربية قتلًا وتدميرًا وتجريفًا استباقًا لعملية تهجير الفلسطينيين باتجاه الأردن التي تستوجبها خرائط نتنياهو، والتي أجهضها الفلسطينيون في غزّة ورفضها المصريون باتجاه سيناء.

فجبهة الأردن الشعبية والسياسية التي انطلقت منذ الأيام الأولى لـ"طوفان الأقصى"، ولم تهدأ مظاهراتها وحناجر نسائها ورجالها عن إطلاق صيحات التضامن الواسع مع المقاومة الفلسطينية، يُرجّح أنها أطاحت بكل المفاعيل النفسية والتطبيعية لـ"اتفاقية وادي عربة"، وبدا الأردن وكأنه على صفيح ساخن تؤججه حرارة الغليان الشعبي الرافض للسلام مع "إسرائيل" والمطالب بقطع العلاقات معها وإقفال سفارتها.

وتبدو وتيرة الجبهة الشعبية والسياسية اليوم، قد ارتفعت بشكل غير مسبوق، بفعل العملية البطولية التي نفذها الشهيد ماهر الجازي على "جسر اللنبي" ما أدى لمقتل ثلاثة جنود إسرائيل، وقد تحوّلت مدينة معان محجّة للأردنيين الذين تقاطروا إليها للتبريك باستشهاد الجازي الذي كرّسته "كتائب القسّام" أحد أبطال "الطوفان"، ما حوّل الجازي بعد استشهاده إلى أيقونة حقيقية عمّدت بالدّم وقوف الأردنيين مع أخوانهم الفلسطينيين في غزّة وعلى امتداد فلسطين، واستعادت أمجاد "معركة الكرامة" بقيادة الفريق مشهور حديثة الجازي.

انقلابات نتنياهو بلغت منزلقًا خطيرًا في الغمز من قناة مصر والمسّ بأمنها القومي

ويرجّح أن تكون عملية "جسر اللنبي" التي اعتبرها كثيرون معركة "الكرامة الثانية"، بمثابة الشرارة الأولى التي أعاد فيها الجازي الاعتبار لمصطلح "الذئاب المنفردة" فطهّره من الشوائب التي لوّثته وحرفت بوصلته في غير اتجاه. ما يشي بأنّ تطورات الأردن الجديدة سترخي بظلالها وتداعياتها على الوضع الملتهب في المنطقة من دون أن نترك للخيال السياسي أن يقودنا لأحلام وتمنيات رغبوية، ما يستدعي المتابعة الحثيثة لإرهاصات الجبهة الأردنية ومفاجآت "الأعمال الفردية" المرتقبة.

انقلابات نتنياهو المتوالية على الصفقة وبنودها، بلغت منزلقًا خطيرًا في الغمز من قناة مصر والمسّ بأمنها القومي، بإعلانه عدم الانسحاب من "محور فيلادلفي"، ما أدّى الى تزخير لهجة الدبلوماسية المصرية بتحميلها إسرائيل مسؤولية انهيار المفاوضات. لكنّ الرسالة الأبلغ كانت في الزيارة المفاجئة لرئيس الأركان المصرية أحمد فتحي خليفة برفقته قادة الأسلحة والوحدات النوعية في سيناء واستعراض بعضها على بوابة معبر رفح وسط تغطية إعلامية فُهم منها أنّ القاهرة تهزّ العصا للاحتلال الاسرائيلي، توازيًا مع إعلان رفضها استضافة اجتماع فني للمفاوضات، ما يعيد طرح السؤال حول عدم إعلان الرئيس السيسي أنّ "رفح وفيلادلفي خط أحمر"، أسوةً بإعلانه الشهير "سرت والجفرة خط أحمر"!

هذا المشهد التصعيدي من مصر الى الأردن مرورًا بالضفة الغربية وغزّة وآخر مجازرها المروّعة في مواصي خانيونس، واكبه تصعيد إسرائيلي مزدوج ضد لبنان و"حزب الله" من خلال الغارات الإسرائيلية العنيفة وإعلان نتنياهو وجنرالاته عن اقتراب لحظة التوجه شمالًا، وهو الاحتمال الأكثر ترجيحًا سيّما إذا ما أعلن أحد الأطراف نعيه للمفاوضات والصفقة وسط تراجع واشنطن عن طرح مبادرتها الجديدة على حماس وإسرائيل.

ولعلّ الغارات الإسرائيلية الـ15 غير المسبوقة على منطقة مصياف السورية رفعت التصعيد الإسرائيلي إلى مستويات غير مسبوقة أيضًا، ما يعكس حجم التعقيدات والإخفاقات التي تلفّ الصفقة وربما تودي بها إلى ما بعد الموت السريري.

عملية ثأر إيران لهنية باتت أشبه بمنصّة حوار خلفية مع الإدارة الأمريكية

وسط هذا المناخ تبدو إيران كلاعبة ظلّ علمًا أنّ وصفة نتنياهو عن "الأيديولوجيات القاتلة"، تحرّض لتسديد ضربة تستهدف مفاعلاتها النووية التي تهدّد أمن إسرائيل كما يكرّر نتنياهو. لكن "لاعبة الظلال" التي وكأنها راجعت عقيدتها النووية، تسارع كلّما خفت وهج تسيّدها المشهد إلى اطلاق صلية جديدة من صواريخها الصوتية المهدّدة بالثأر لزعيم "حماس" المقتول في غرفة نومها، إسماعيل هنية، دون أن تثأر له في أربعينيته، كما ثأر "حزب الله" لقائده العسكري فؤاد شكر في أربعينية الحسين.

عملية ثأر إيران لهنية التي أكثر المسؤولون الإيرانيون من الكلام والحبر المُسال حولها، باتت أشبه بمنصّة حوار خلفية مع الإدارة الأمريكية التي تبدو أشبه ببطة عرجاء في لحظتها الانتخابية الحسّاسة التي تحاول فيها إيران تخصيب ثأرها وسط التحوّلات التي ستفرزها الانتخابات الأمريكية التي تستثمر فيها إيران، لتدوزن تموضعها وردّها المتناسب مع التحوّلات توازيًا مع استكمالها نصب منصّات الدفاع الجوّي والالكتروني المتقاطرة بالطائرات الروسية إلى إيران وتعود محمّلة بصواريخ بالستية لزوم الحرب الروسية الأوكرانية. ذلك أنّ طهران قد أخذت بنصيحة صينية روسية عرضها مستشار الأمن القومي الروسي سيرغي شويغو بهدف تحصين الدفاعات الإيرانية وحماية المنشآت الاستراتيجية والنفطية الحسّاسة بما يمكّنها من التعامل مع حرب إقليمية متناسلة من الردّ الإسرائيلي على الثأر لاسماعيل هنية.

وحدها المعجزة، قد تمنع الحرب الواسعة!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن