صحافة

الكذب في السياسة الإسرائيلية

محمد أبوالفضل

المشاركة
الكذب في السياسة الإسرائيلية

لا أعلم كم مرة كذبت وسائل الإعلام الإسرائيلية في التعامل مع الحرب على قطاع غزة وما خلفته من تداعيات، ثم اكتشفت زيف ما روجت له. ولا أعلم كم مرة كذب المسئولون بشأن تجفيف منابع حركة "حماس" في الشمال ثم عادت وأطلقت صواريخها على إسرائيل.

يقولون كل شيء مباح فى الحرب، الكذب والشائعات والحرب النفسية، لكن المشكلة أن هذه المسألة تحولت إلى هواية لدى بعض الساسة، يمارسونها باستمرار مع مصر التي وقعت إسرائيل معها اتفاقية سلام دولية، للدرجة التي استفزت وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي للتخلي عن دبلوماسيته مؤقتا والإشارة مباشرة إلى ما تقوم به إسرائيل من كذب حيال تعاملها مع ممر صلاح الدين المعروف بـ"فيلادلفيا" على حدودنا مع فلسطين، واستنكاره لهذا الأسلوب.

قلبت إسرائيل على مدى عقود طويلة الكثير من الحقائق التاريخية حول القضية الفلسطينية، وحاولت خداع العالم بأنها بدأت مع عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، غير أن ما تقوم به قوات الاحتلال من إبادة جماعية، لفتت بشاعته أنظار كثيرين في العالم، وحثتهم على البحث عن جذور القضية، واكتشاف حجم الانتهاكات التي ترتكب والتزييف الذي لحق بالقضية الأم في الشرق الأوسط، ما عرض إسرائيل إلى انتقادات من جهات كانت قريبة منها، وربما وثيقة الصلة بها، حيث جعلتها الجرائم البشعة غير قادرة على مداراتها والاستمرار في الدفاع عنها.

لعل الاتهامات الموجهة من محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية إلى عدد من قياداتها سوف تكون لها بالغ الأثر لاحقا، وتؤكد أن كل الشائعات التى روجت لها لن تفلح في إنقاذها، وأن الهجوم الذي شنته على بعض المسئولين الكبار في منظومة العدالة الدولية والأمم المتحدة لم يثنهم عن القبول بالسرديات التي رددها الاحتلال.

بكلام آخر هناك حد يمكن القبول به من الكذب في السياسة الدولية تجاوزته إسرائيل كثيرا، ولم يعد ما تنشره من معلومات مغلوطة حول ممر صلاح الدين وما اكتشفته من أنفاق مزعومة لمرور الأسلحة من الأراضي المصرية إلى غزة يصدقه أحد، لأن مصر خاضت معركة قوية ضد الإرهاب ودفعت ثمناً غالياً للقضاء عليه.

وجد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو فص رواية الأنفاق ذريعة لتبرير تمسكه بالبقاء في الممر، كي يغرق صفقة الأسرى في تفاصيل ثانوية، ويشتت انتباه من ينتظرون التوقيع عليها وطي صفحة قاتمة جديدة في التاريخ الفلسطيني، ويسعى نحو إطالة أمد الأزمة من خلال الانتقال من كذبة إلى أخرى مع مصر أو غيرها، دون أن تتورع وسائل الإعلام العبرية عن ترديد سيمفونيات سياسية يجيد عزفها، كلما ضاقت به السبل، ليضمن وجود شماعة يعلق عليها إخفاقه في تحقيق أهدافه التي أعلنها منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب على غزة، ويهيىء الأجواء التي تساعده في تفريغ القطاع من سكانه والعودة إلى مسلسل التوطين بالقوة تارة، والتحايل تارة أخرى.

أشارت نظريات عدة في العلوم السياسية إلى أن الكثير من الساسة يكذبون على شعوبهم، لكن القليل منها توقف عند أكاذيبهم على الدول وقادتها، اتساقا مع ما قاله ميكيافيللى أن ما يعتبر من الأخلاق الحميدة بين الأفراد قد لا يصلح في السياسة والحكم والعلاقات الدولية، لكن ما يقوم به نيتانياهو فاق هذه العبارة، لأنه يفتقد الكياسة، وما يمكن أن يسنده من حكمة قليلة، حيث تحول الكذب إلى منهج، والتقلبات السياسية إلى أداة لتحقيق مكاسب آنية، مع أنها سوف تضر بالعلاقات الثنائية، فما رصدته مصر من افتراءات قد يكون عاملا مهما في تحديد أطر العلاقات في المستقبل.

ما يهم رئيس الوزراء الإسرائيلي تحقيق أهدافه الشخصية، وغض النظر عما يروج له من شائعات تجاه مصر،وهو يؤدي تمثيلية رخيصة استخدمها لتبرير بعض ممارساته، بينما كل ذلك سوف يلعب دورا في تعميق الشروخ، وزيادة الشكوك في نوايا من يخلفه على رأس الحكومة، فإن عاجلا أو آجلا سيرحل نيتانياهو في الأيام التالية لوقف الحرب على غزة، وتنتظره محاكمات قانونية وسياسية، سيكون الكذب على شعبه من بين بنودها، إذ أخفق في تحقيق أهداف الحرب كاملة، ولم يتمكن بعد نحو عام على نشوبها من عودة الأسرى والمحتجزين، ولا تزال "حماس" تحتفظ بقوة عسكرية في غزة والضفة الغربية تكفيها لدحض مزاعمه بأنه قضى عليها.

أعتقد لم يصل أحد من القادة في إسرائيل إلى المستوى المنخفض الذى وصل إليه نيتانياهو في الكذب، حتى بات يصدق نفسه، مع أن تصريحاته تتغير وتتبدل وفقا للسياقات السياسية والعسكرية، ويسرب إلى وسيلة إعلامية كلاما، وإلى أخرى كلاما ثانيا وثالثا ورابعا، وقد تكون هذه الحيلة أفادته في وقت مبكر من الحرب، إلا أن تجلياتها الزائفة بدأت تتكشف، وفقد كثيرون من قادة الجيش ثقتهم فيما يقوله الرجل داخل الغرف المغلقة، وما يتفوه به خارجها، فصفات التناقض والازدواجة والتنصل من الوعود أعمدة رئيسية في خطاباته، ما أحرج أصدقاءه وحلفاءه والقريبين من دائرته، وجعل بعضهم يحتفظون بمسافة بعيدا عنه، خوفا من أن يصيبهم رذاذ كذبه.

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن