وجهات نظر

رُبّ أزمة أحيت أمّة

تأتي الأحداث التي تطرأ على حياة الناس، فتدفع بأشياء وأشخاص وأفكار إلى بؤرة الاهتمام العام، ولا يختلف هذا الأمر في المنطقة هنا عنه في خارجها على السواء.. وإلا، فهل كان أحد في العالم سيعرف أنّ الرئيس الأوكراني اسمه فولوديمير زيلينسكي، لو أنّ روسيا لم تعلن الحرب على بلاده في ٢٤ فبراير/شباط من السنة قبل الماضية؟.

رُبّ أزمة أحيت أمّة

كان زيلينسكي ممثلًا قبل أن يكون رئيسًا، وكانت الكوميديا مجاله في أعماله، ومع ذلك، فإنه عندما جرى انتخابه رئيسًا لم ينتبه كثيرون إلى أنّ ممثلًا كوميديًا قد صار رئيسًا، ولكن الحرب على بلده جعلت اسمه على كل لسان، كما أنه اعتمد زيًا محددًا يرتديه ولا يبدله حتى ترسخت صورته به في الأذهان، فكأنه "أبو عمار" في زمانه بالبدلة الكاكي والكوفية على رأسه لا يغيّرهما.

شيء قريب من هذا جرى في النكبة الفلسطينية الثانية التي تعرّض ويتعرّض لها الفلسطينيون في قطاع غزّة منذ إعلان إسرائيل الحرب عليهم في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من السنة الماضية. فالحرب التي دخلت شهرها الثاني عشر في السابع من هذا الشهر أثارت السؤال عما إذا كانت إسرائيل جادة فيما سُمي السلام الإبراهيمي بينها وبين ٤ دول عربية؟ وأيضًا فيما إذا كانت راغبة بالفعل في العيش بسلام مع جيرانها في هذه المنطقة من العالم؟.

بيان مجلس التعاون الخليجي أعاد إلى الأذهان زمنًا كانت لغة التضامن بين عواصم العرب هي القاعدة 

هذه فكرة كانت في هامش الإهتمام العام قبل إعلان الحرب على غزّة، ولكنها تحرّكت من هامشها بعد أن تابع العالم مقتلة جماعية غير مسبوقة ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين، ولا تفرق فيما ترتكبه بين غزّة وبين الضفة.

وقد كان بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة التطرف في تل أبيب، يحاول الهروب إلى الأمام في كل مرة يكون عليه فيها أن يوقف مقتلته الجماعية، ولم يكن ما أثاره عن محور فيلادلفيا بينما الحرب تدخل شهرها الثاني عشر، إلا محاولة جديدة من محاولات الهروب للأمام صارت مكشوفة من طول تكرارها ولم تعد تنطلي على أحد.

قبل أن يزعم هو وجود تهريب للسلاح من خلال هذا المحور، لم يكن أحد يسمع إلا بالكاد عن محور بهذا الاسم، ولكن مع كثرة ترديد اسمه بعد مزاعم رئيس حكومة التطرف وقبلها على مدى أيام وأسابيع وشهور المقتلة الجماعية، انتبه كثيرون إلى وجود فيلادلفيا، فلما طالعوا شيئًا عنه عرفوا أنه يمتد بالطول داخل قطاع غزّة، وبالمحاذاه مع الحدود المصرية من جنوب القطاع إلى شماله هناك على البحر المتوسط.

المحور موجود من زمان طبعًا، ويمتد بطول ١٤ كيلومترًا وبعرض مائة متر في بعض أجزائه، ويسميه المصريون والفلسطينيون محور صلاح الدين، بينما يسميه الإسرائيليون محور فيلادلفيا.. والقضية بالطبع ليست في اسمه، ولكنها في دخول قوات إسرائيلية إليه في مرحلة من مراحل الحرب، ثم في مزاعم رئيس حكومة التطرف بشأن تهريب السلاح.

هو يعرف بينه وبين نفسه أنّ تهريب السلاح من خلال المحور عن طريق الأراضي المصرية مستحيل، لأن مثل هذا التهريب إذا حدث سيكون ضد المصلحة الأمنية المصرية، ولا توجد دولة تعمل ما يضر بمصلحتها الأمنية على حدودها.

المهم أنّ رئيس حكومة التطرف ما كاد يطلق مزاعمه بهذا الشأن، حتى كانت القاهرة قد ردت عليه على نحو ما يتعيّن الرد.. والأهم أنّ بيانًا صدر على الفور عن مجلس التعاون الخليجي بأعضائه الست، فكان بيانًا تضامنيًا مع مصر بأقوى نبرة وأوضح لغة.

ليست هناك أمّة ناهضة في عالمنا المعاصر إلا وهي قد أقامت نهضتها على أنقاض أزمة

ولأن البيان صدر في اللحظة التي أطلق فيها نتنياهو مزاعمه، فإنه قد أعاد إلى الأذهان زمنًا كانت لغة التضامن بين عواصم العرب هي القاعدة التي لا تتخلف ولا تغيب. ليس هذا فقط ولكنه جدد الأمل في أن تكون نبرته منهجًا عربيًا في المستقبل، وأن تكون لغته أسلوبًا في التعامل مع كل أزمة تطول أي دولة عرببة في مقبل الأيام.

هذا بيان أحيا آمالًا عريضة فيما يمكن أن يكون عليه العرب، لو أنهم استحضروه في كل مرة يكون عليهم فيها أن يوقفوا الطامعين في أرضهم عند حدهم، وفي كل مرة يكون عليهم فيها أن يوظفوا ما في أيديهم من إمكانات.

ليست هناك أمّة ناهضة في عالمنا المعاصر، إلا وهي قد أقامت نهضتها على أنقاض أزمة، وبالقياس على ذلك، فإنّ الأمل أن تكون النكبة الثانية للفلسطينيين هي هذه الأزمة، وأن تكون الأمّة العربية هي هذه الأمّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن