يُقدّم فيلم "الحرب الأهلية" قراءة ديستوبية للديناميات السياسية والاجتماعية المعاصرة، حيث يستكشف الفيلم سيناريو افتراضي لأمّة مُمزقة على شفا صراع أهلي. ومن خلال نسج سردية الخلاف السياسي والاضطرابات المجتمعية، يدفع العمل المشاهدين إلى التفكير في حالة الاستقطاب السياسي الحالية وعواقبها المحتملة، كما يرصد خطر التطرّف السياسي، ودور وسائل الإعلام، وتأثير الخطاب المثير للانقسام، مُسلّطًا الضوء على أهميته في المشهد العالمي اليوم.
استطاع مخرج العمل أليكس غارلان رسم صورة مرعبة للعبة الاستقطاب السياسي التي باتت تهدّد السلم القومي، حيث يصور الفيلم سيناريو درامي يتصاعد فيه الانقسام الأيديولوجي إلى صراع مفتوح، حيث يتصدره فصيلان متنافسان، لكل منهما مجموعة من المطالب والحلول. ويُبرز أيضًا العواقب المحتملة للحماسة الأيديولوجية غير الخاضعة للرقابة.
يستكشف الفيلم من خلال شخصياته وحبكته كيف يمكن لوجهات النظر المتطرّفة أن تؤدي إلى انهيار الخطاب المدني وتآكل المؤسّسات الديمقراطية.
تصوير الفيلم لهذه الفصائل دقيقٌ ومثيرٌ للقلق في آن. فهو لا يقدمهم ببساطة على أنّهم أشرار أو مضللون، بل يستكشف الدوافع الكامنة وراء معتقداتهم، ويُقدم صورة أكثر تعقيدًا عن كيفية تجذر التطرّف السياسي.
يمنحنا هذا النهج الدرامي مساحة للتفكير في كيفية تطور الانقسامات المجتمعية وكيف يمكن معالجتها قبل أن تؤدي إلى نتائج أكثر خطورة.
فالفيلم يتطرّق إلى خطورة البروباغندا الإعلامية المُسًيّسة، ويتناول أيضًا تيمة صحافة الحرب وكيف تلعب الصورة في زمن الفوضى دورًا أخطر من الرصاص. ويوضح العمل كذلك كيف يمكن لوسائل الإعلام، التقليدية والرقمية على حد سواء، أن تفاقم الصراعات من خلال نشر المعلومات المضللة والإثارة المجانية، إذ يتم تسليط الضوء على الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في تشكيل الإدراك العام وتأجيج الاستقطاب من خلال تصويره للتقارير المتحيّزة وإنشاء غرف الصدى.
الصحافة في زمن الحرب.. بين الحقيقة والتزييف
وضع أليكس غارلان الصحافة الأميركية والعالمية تحت المجهر من خلال إبراز دورها سلبًا وإيجابًا في مناطق الحرب. والصحافة كما هو معلوم، تلعب دورًا حاسمًا في فضح الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان. إذ يمكن للتقارير الاستقصائية، مثلًا، أن تُسلّط الضوء على معاناة المدنيين وجرائم الحرب المحتملة وسلوك الفصائل المختلفة المشاركة في الصراع. كما يمكن أن يضغط هذا التدقيق على الحكومات والمنظمات الدولية لاتخاذ إجراءات أو تقديم المساعدة أو السعي لتحقيق العدالة. ومع ذلك، فإنّ الصحافة في زمن الحرب محفوفة بالتحديات.
غالبًا ما يواجه الصحفيون الرقابة والتهديدات والعنف، مما قد يعيق قدرتهم على إنجاز مهمتهم بحرية وأمان. بل ويعرّض سلامتهم الشخصية إلى الخطر. وكمثال على ذلك، الجرائم والمضايقات التي يتعرض لها المراسلون الدوليون والمحليون من طرف قوات الجيش الإسرائيلي. وبالحديث عن التضحيات المثلى التي قدمها ولازال يقدمها الجسم الصحفي العالمي والعربي على وجه الخصوص، لا يفوتنا التركيز على الأعمال البطولية لنخبة من الصحفيين العرب الذين دفعوا حياتهم دفاعًا عن الكلمة.
وعلى الرغم من هذه العقبات، يظل دور الصحافة لا غنى عنه، فهي لا تقوم بإعلام وتثقيف الجمهور وحسب، بل تعمل أيضًا كضابط للسلطة، وتعزيز المساءلة وتعزيز فهم أعمق للآثار الأوسع للصراع. ومن خلال تفانيهم وقدرتهم على الصمود، يساهم الصحفيون بشكل كبير في الخطاب والاستجابة المحيطة بأحداث زمن الحرب.
العنصرية والتفرقة.. دونالد ترامب نموذجًا
معلوم أنّ الولايات المتحدة الأمريكية شهدت انقسامًا سياسيًا وهوياتيًا خطيرًا منذ صعود دونالد ترامب زعيم المركزية البيضاء للسلطة. لذا كان من المنطقي أن تتناول أعمال روائية عديدة تيمة الدعائية والشعبوية والعنصرية. وبالتالي، ركز صُناع فيلم "الحرب الأهلية" على فضح الخطابات المثيرة للانقسام، وكيف يمكن أن تسهم اللغة التحريضية ويساهم الخطاب العدواني في تصعيد التوترات والصراع.
ومن خلال شخصياته، يُصوّر الفيلم الآثار المدمرة للقادة والشخصيات العامة الذين يستخدمون الخطابات لتعزيز أجنداتهم، بدلًا من البحث عن أرضية مشتركة أو حوار بنّاء، مع إيحاءات وإسقاطات متعدّدة على العديد من الزعماء الأمريكيين الذي اشتهروا ببث سموم الكراهية والعنصرية والتفرقة، وعلى رأسهم دونالد ترامب العاشق للبروباغندا والجدل.
قدّم "الحرب الأهلية" تشريحًا دقيقًا لما قد تؤول إليه الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد. فمن خلال تجسيده الدرامي لسيناريو الصراع المتصاعد، يُقدّم العمل قصة تحذيرية حول مخاطر الاستقطاب السياسي والتلاعب الإعلامي وخطاب الكراهية والتشويش وبث التفرقة، وتؤكد صلته بالقضايا العالمية الحالية، خاصّة الوضع المتفجر في الشرق الأوسط، على أهمية معالجة هذه التحديات بشكل استباقي. وبينما يتفاعل المشاهدون مع الحبكة المتسارعة، يتم تحفيزهم على التأمل في العواقب المحتملة للتطرف السياسي والدور الذي يمكن أن يلعبوه في تعزيز مجتمع أكثر تماسكًا وتفاهمًا.
من خلال سرده المؤثر وعدسته الناقدة، قدّم لنا أليكس غارلان عملًا مميّزًا ينضاف إلى رصيده السينمائي الغني، وإن يغلب الاعتقاد هنا بأنّنا لسنا بحاجة إلى المزيد من أفلام الحروب والصراعات الدامية، لعدّة أسباب.. منها أنّ نشرات الأخبار كفيلة ببث الرعب في أوصالنا وإصابتنا بشظايا رصاص غير مرئي.
(خاص "عروبة 22")