نحن مهددون حرفيًا بتعديلات جراحية أخطر وأفدح في خرائط المنطقة، أقلها أن نقع رهينة في قبضة اليمين الإسرائيلي المتطرف وخططه المعلنة للتهجير القسري من غزّة إلى سيناء ومن الضفة الغربية إلى الأردن.
قد تتفق أو تختلف مع "حزب الله"، هذه ليست القضية الآن. بقوة الحقائق فهو قوة الإسناد الرئيسية للمقاومة الفلسطينية على مدى عام كامل من حرب الإبادة في غزّة، ملتزمًا بعدم التهدئة على الجبهة الشمالية الإسرائيلية إلا بعد وقف إطلاق النار في غزّة. حاول بقدر ما يستطيع تخفيف الضغوط العسكرية على المقاومة في غزّة حتى لا تكون تصفيتها ممكنة بالوقت الذي يقف فيه العالم العربي متفرجًا.
لا تقدر الدولة العبرية على فتح جبهة قتال واسعة دون أن يكون مؤكدًا توافر غطاء أمريكي كامل
إننا أمام حرب وجودية لا يصح فيها مهما كانت الذرائع إبداء الشماتة فيما أصاب الحزب من ضربات استخباراتية إسرائيلية نالت من شبكة اتصالاته وسلامة مقاتليه. الشماتة فعل خذلان للنفس وإنكار للعواقب المحتملة.
باليقين هناك فجوة تكنولوجية كبيرة، تستدعي التنبه إليها والعمل على سدها. باليقين أيضًا هناك اختراقات أمنية في بنية المقاومة سهلت الوصول إلى نخبة قياداتها، وهذه مسألة تستدعي أخذها على محمل الجدية الكاملة لسدها هي الأخرى.
الفارق جوهري بين الاعتراف بالخرق الأمني الفادح والوقوع في شراك الشماتة، التي تبدت على شبكات التواصل الاجتماعي وتكاد تشبه في جوهرها ما تبدى من هستيريا فرح انتابت الجماعات اليهودية المتطرفة داخل إسرائيل وخارجها.
كان تفجير أجهزة "البيجر" عملًا إرهابيًا لم يفرّق بين مقاتل ومدني، أو بين لبناني وآخر.
أثارت التفجيرات ذعرًا وترويعًا في الشوارع والبيوت بأعداد القتلى والمصابين، لكنه استدعى بالوقت نفسه تضامنًا لافتًا بين اللبنانيين، الذين هرعوا لمد يد المساندة والتبرع بالدم.
الأمر نفسه حدث باليوم التالي عند تفجير آخر لأجهزة الـ"ووكي توكي أيكوم".
كان مستهدفًا هز الثقة العامة قبل بدء العمليات العسكرية المنتظرة، وهي من مهام الحروب السرية، التي تتولاها أجهزة الاستخبارات.
الحروب السرية ليست جديدة، أو مستحدثة في الصراع العربي الإسرائيلي، الذي شهد كثيرًا وطويلًا ضربات وضربات مضادة، اختراقات واختراقات مضادة.
في ذروة الصراع خمسينيات وستينيات القرن الماضي زرعت المخابرات المصرية "رفعت الجمال"، الذي اشتهر باسم "رأفت الهجان"، في قلب المجتمع الإسرائيلي قريبًا من دوائر صنع القرار.
بالوقت نفسه تقريبًا زرعت إسرائيل "إيلي كوهين" باسم "كامل أمين ثابت" في قلب المجتمع السوري، وكاد أن يتولى وزارة الدفاع غير أنه كُشف عام (1965) وجرى إعدامه في دمشق.
كانت عمليتا "الحفار" وعصفور" مثالين على ضربات موجعة تلقتها إسرائيل.
في الأولى، جرى تدمير وإغراق الحفار "كينتينج"، الذي استجلبه الإسرائيليون عقب نكسة (1967) لاستخراج البترول من خليج السويس بقصد إذلال المصريين ونهب ثرواتهم معًا. تم تدمير الحفار عند سواحل "ابيدجان" بعملية متقنة في التمويه والتنفيذ حتى تمكنت ضفادع بشرية مصرية من رد الصفعة بأقوى منها.
وفي الثانية، تمكن المصريون من زرع ميكروفونات حديثة في مدخل السفارة الأمريكية بالقاهرة وصالونها وغرفة الطعام والبهو الأعلى في مبناها، التي تدور فيها جميعًا حوارات على درجة عالية من الخطورة وظلت مصدرًا موثوقًا للمعلومات حتى كشف "أنور السادات" سرها بعد أن صعد إلى السلطة.
وفق نصوص ما هو مسجل فإنّ سبب إسرائيل المباشر لاستهداف حياة "جمال عبدالناصر" هو خشية قياداتها من أن يفضي أي إنجاز عسكري للقوات المصرية في أية مواجهات متوقعة إلى مد جديد لحركة التحرر الوطني في العالم العربي لا تقدر على صده.
الحروب السرية استهدفت هذه المرة ضرب ثقة المقاومة اللبنانية في نفسها قبل أن تبدأ العمليات الواسعة، حتى يكون التسليم بما تريده إسرائيل ممكنًا.
بأي نظر في حقائق القوة الماثلة لا تقدر الدولة العبرية على فتح جبهة قتال واسعة في جنوب لبنان قد تتحول بالانزلاق إلى حرب إقليمية مدمّرة، دون أن يكون مؤكدًا توافر غطاء أمريكي كامل استراتيجيًا وعسكريًا، فجيشها منهك واستخباراتها فشلت بفداحة في اختبار السابع من أكتوبر (2023).
إننا أمام لحظة خطرة يتقرر على أساسها المستقبل العربي كله لآماد طويلة
إذا ما أجريت صفقة لتبادل الأسرى والرهائن ووقف إطلاق النار يعود الهدوء إلى الشمال الإسرائيلي وتنتفي ذرائع الحرب على لبنان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" يرفض مرة بعد أخرى التوصل إلى أية صفقة خشية خسارة منصبه وإيداعه السجن بتهمتي الفساد والرشى.
ليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأنه سوف ينجح في جنوب لبنان فيما لم ينجح فيه بغزّة، لكن التكلفة السياسية والإنسانية للحرب مقلقة بذاتها.
إننا أمام لحظة خطرة يتقرر على أساسها المستقبل العربي كله لآماد طويلة. هذه حقيقة تستحق التنبه والتضامن الجدي قبل أن تتقوض القضية الفلسطينية ويُضرب لبنان في مصيره ومستقبله وتأخذ كوابيس الشرق الأوسط الجديد مداها.
(خاص "عروبة 22")