البعض اعتبروا ما يحدث مهمته إضعاف قدرات "حزب الله" عبر التركيز على ضرب قياداته وكوادره الذين يمثلون الشق الأهم في ثلاثية قوته. إذ يسبق أهمية تسليحه من جهة وتكتيكاته من جهة ثانية، وكلا الأمرين تعرض ولا سيما أسلحته ومستودعاته في لبنان وفي سوريا إلى ضربات متوالية، تصاعدت وتوسعت في العام الماضي، كما تعرض بعض قادته وكوادره لهجمات إسرائيلية وعمليات اغتيال بينها اغتيال فؤاد شكر الذي وُصف بأنه قائد الحزب العسكري، ولا شك أنّ هذه الضربات ذات تأثير على تكتيكات الحزب التي تديرها خبرات وتجارب القادة والكوادر، وهذا ما يجعلنا نتوقف أكثر عند التفجيرات التي استهدفت آلافًا من قادة وكوادر الحزب، إن لم يكن في قتلهم، فإنها أدت إلى تحييد وإخراج قسم كبير من قوة الحزب البشرية في مجالات ومستويات مختلفة.
ولا يحتاج إلى تأكيد، أنّ ثمة آراء أخرى حول معاني ما يحدث في لبنان، تُبين في الجوهر، ولو بدرجات متفاوتة، أنّ الهدف إضعاف وإنهاك الحزب سواء قبيل حرب شاملة على لبنان أو في تواصل المواجهات الحالية، والأمر في الخلاصة متوافق مع كل أهداف حروب ومعارك إسرائيل مع لبنان وغيره من العرب.
عززت إسرائيل نهجها في لجم مزايدات تركيا وإيران بالموضوع الفلسطيني فسكتت الأولى وتلقت الثانية ضربات قبل أن تسكت
غير أنّ ما حدث من تفجيرات وهجمات، والبيئة المحيطة بها، تدفع نحو الأبعد في رؤية التطورات، باعتبارها مرحلة من تحول عملي نحو نوع جديد من أسلحة، يضاف إلى التقليدية التي تستخدمها إسرائيل، وهو استخدام التفجيرات عن بُعد بواسطة أجهزة اتصالات، وإتباعها بهجمات جوية واسعة، ومما يدعم ذهاب إسرائيل إلى هذا النوع من العمليات، بيئة إقليمية ودولية تكرست في فصول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، التي اتخذت من اجتياح "حماس" غلاف غزّة مبررًا لانطلاقها وتدمير غزّة وحياة سكانها وسط دعم دولي غير مسبوق، حولته إسرائيل إلى فرصة لتحوّل استراتيجي في الجانبين السياسي والعسكري.
ففي الجانب السياسي حدث تبدل في شكل ومحتوى علاقاتها مع محيطها، كان المظهر الأول في تحول علاقتها مع الفلسطينيين، أنها تجاوزت الرد على عمليات "حماس" في غلاف غزّة، وتجاوزت حدود الانتقام المعتاد والمساومة في إطلاق رهائنها للمضي في خط تدمير غزّة بصورة شاملة، وتدمير حياة سكانها، ودفعهم للهجرة، وهو مسار يرسم نظرة إسرائيل إلى مستقبل الضفة الغربية وسكانها، دون أن يتأثر مسار التطبيع العربي الذي كان بين تعبيراته الواضحة، ضعف شديد في الرد على ما تقوم به إسرائيل في غزّة والضفة وفي المحيط العربي، وفي المستوى الإقليمي عززت إسرائيل نهجها في لجم مزايدات تركيا وإيران في الموضوع الفلسطيني، فسكتت الاولى، وتلقت الثانية قبل أن تسكت ضربات، تجاوزت مناطق انتشار قواتها ومليشياتها في سوريا، وتم ضرب الميليشيات الحليفة لها وخاصة "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد"، وتم تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق، وقتل زعيم "حماس" اسماعيل هنية وسط المنطقة الأمنية في طهران.
أما التحول في الجانب العسكري، فشمل أمرين أولهما دخول إسرائيل خط الحرب الطويلة، بعد أن كانت استراتيجيتها تقوم على الحرب السريعة والخاطفة، وهذا التحول أعطاها فرصة ومرونة في إعادة رسم وتشكيل الأوضاع بما يناسب مصالحها مع استمرارها في استخدام القوة والسياسة في آن معًا، وكان من تجليات هذا الجانب اغتيال هنية مع استمرار المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية حول غزّة، وتواصل الاشتباكات والمفاوضات الديبلوماسية بين "حزب الله" واسرائيل رغم اغتيال فؤاد شكر وغيره من القادة العسكريين للحزب.
يُمثّل التحوّل الإسرائيلي الجديد أساسًا لتغيير كبير في المحيط الإقليمي ويطرح كثيرًا من الأسئلة على العرب
وثاني تحولات الجانب العسكري الإسرائيلي فتح بوابة استخدام التفجيرات عن بُعد، وهي أسلحة محرّمة يعارضها القانون الدولي، لكنها أسهل، ونتائجها مباشرة وسريعة، وتكلفتها البشرية والمادية بالنسبة لإسرائيل أقل، وتتوفر لدى إسرائيل إمكانيات تقنية لاستخدامها وعلاقات متعددة الأبعاد تدعمها.
وسط تلك المعطيات والظروف، يُمثّل التحوّل الإسرائيلي الجديد أساسًا لتغيير كبير في سياسات إسرائيل وعلاقاتها في المحيط الإقليمي وامتداداته، وهو ما يطرح كثيرًا من الأسئلة على العرب دولًا وشعوبًا عما ينبغي القيام به سواء في مسار الإجراءات العاجلة في التعامل مع ما يتركه هذا التحول من آثار على الواقع العربي، ووضع مسار سياسات مستقبلية ترسم وتحدد أشكال ومحتويات التعامل العربي مع إسرائيل وسياساتها في ضوء التحول الجديد.
(خاص "عروبة 22")