نعيش زمن الذكاء المفتوح على كل ما هو مسموح مهما بلغت نتائجه القاتلة. وفي نظرة سريعة على العمليات العسكرية التي تجري على أكثر من جبهة في العالم من أوكرانيا الى غزة الى لبنان.. نرى عصراً جديداً من الحروب باستخدام أسلحة الذكاء الاصطناعي التي أصبحت واقعاً لا يمكن الاستهانة به. وهي على كثرتها وتفوقها والصدمات التي أحدثتها إلا أن الثابت الوحيد الذي يبرز كتحدٍ مهم هو هذا الاختراق الذي يحققه الذكاء الخبيث..
كنتُ قد كتبتُ عن السباق المحموم بين أودية السيليكون في كاليفورنيا والصين، والذي يسير بسرعة فائقة ولا تُواكب سرعته أي قوانين دولية.. أودية تعمل بسرية وتستعد لحكم العالم.. لكن الحروب الأخيرة أفرزت بعض ما خفي.. وما بقي أعظم..
ما زال التوافق مفقوداً بين الدول العظمى على أسس ناظمة لتأطير دمج واستخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب بما يضمن عدم الإخلال بالمبادئ المكتسبة لحقوق الإنسان. القوة التي تسبق في تطوير الأسلحة الذكية ستكون لها اليد العُليا في رسم خارطة وتغير خارطة.. إذن المخاوف من استعمال هذه الأسلحة في الحروب هي مخاوف حقيقية.
إن استعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي صُمم في الأساس لخدمة البشرية، لكنه كأي عِلم حديث ما يكاد يبرز حتى تمتد أيدٍ خفية لتحويله الى سلاح مُدمر.. هذا ما حدث مع تطور العلوم البيولوجية والكيميائية التي سرعان ما وجدت من يستغلها في تطوير أسلحة كيميائية قاتلة، وهذا ما يحدث الآن في عِلم الذكاء الاصطناعي.
أظهرت الحروب الأخيرة أن هناك لاعبين لا يكترثون أبداً لقيمة الإنسان بغض النظر إن كان مدنياً أم عسكرياً. وجدنا أنفسنا أمام بلدان تتباهى بقدراتها الذكية في التدمير والقتل وفي استخدام التكنولوجيا بشكل ينتهك كل الأعراف الإنسانية ولا تجد من يردعها، ولا توجد قوانين توقفها أو على الأقل تُرشّد استعمال هذه الأسلحة كما حدث مع سابقاتها النووية والكيميائية.
وبالعودة الى ما نُشر عن وكالة (دِربا) (وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة) فهي رغم أنها تحمل كلمة (دفاعية) الا أنها دأبت على تطوير أسلحة قاتلة خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي. هذه الوكالة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية والتي أسست بعد الحرب العالمية الثانية وتحديداً عام 1958، يُخصص لها سنوياً مليارات الدولارات، وقد اهتمت مؤخراً بتقنيات الذكاء الاصطناعي وابتكرت أغرب وأخطر الأسلحة للحفاظ على التفوق الأمريكي في مجال التسلح العالمي خاصة أمام المنافسة التي بدأت تظهر في روسيا والصين. سخرت (دِربا) شبكات الإنترنت ونظام الحاسب الآلي لتحقيق أهدافها. ويُنسب لهذه الوكالة تقنية (GPS) التي أتيحت للاستعمال العالمي، لا حباً بتسهيل السير على الطرقات العالمية، بل لأن هذه التقنية إذ ما انتشرت ساعدت في رصد وتحديد مواقع تُستعمل في الحروب.
لدى هذه الوكالة تاريخ طويل في إطلاق أفكار خطيرة ومخيفة، خاصة في العقد الأخير، حيث أعلنت وهي المُتسِمة بالغموض والسرية عن العديد من برامجها ومنها استعمال ما يشبه شريحة (اليون ماسك) من بناء واجهات عصبية تعمل على الذكاء الاصطناعي وتسمح للبشر بالتحكم في الآلات من خلال أفكارهم.. ولكن بشكل تكون الآلة بالمقابل قادرة على التحكم وانتهاك أفكار المُستعمل.
وبرعت في مجال التجسس الذي استخدمت فيه الفضاء الإلكتروني، وقدمت لها كل شركات الإنترنت بياناتها التي تُعتبر كنزاً من المعلومات، حيث يمكن تحليلها وتسخيرها لرصد الأعداء وتتبع خطواتهم. ويمكن للخوارزميات جمع هذه المعلومات ومعالجة كميات هائلة من مصادر البيانات المُتعلقة بالنزاعات المسلحة وتحليلها بشكل فائق السرعة، بهدف تحديد الأشخاص والأفراد والأشياء في ساحات النزاع والتعرف الى الأنماط السلوكية وتقييمها، وإجراء مسوح للبيانات التاريخية وعمليات المطابقة للتوصل الى توصيات بشأن أنجح وأسرع التكتيكات العسكرية لتحقيق الأهداف المرجوة ضد الخصم.
كما أصبح هناك اهتمام زائد بدعم (حرب المعلومات) (Information Warfare). وكما هو معروف فإن التحليل الواسع النطاق للبيانات والحصول عليها من مصادر نصية أو من الأقمار الصناعية أو المُسيرات المُدعمة بكاميرات خفية ومصادر أخرى سمعية من خلال اختراق الهواتف وغيرها من فنون جمع المعلومات بطرق لا تخطر على بال.. ومنها ما أعلنت عنه كاستعمال الطيور والخفافيش بزرع كاميرات فيها.. وحتى تسخير أسماك البحر بوضع شرائح فيها تنقل كل الصور لغرف العمليات..
كل ذلك وأكثر من أجل (جمع المعلومات) حتى شبكات (التواصل الاجتماعي) البريئة لم تعد بريئة، حيث يتم جمع البيانات منها عن كل هدف ولو كان (الهدف) نفسه لا يستعملها، يكفي أن يستعملها طفله لتتمكن من اختراق تحركاته.. وهكذا رفعت كل وسائل التواصل الشيفرة عن بياناتها، وحدها التليغرام عُوقبت حتى رضخت لتكتمل الصورة.. ويصبح أي هدف على مرمى نيرانهم.
هذا هو الواقع الذي بدا صادماً في الحروب الأخيرة.. وفي هذا الزمن الحزين. لم يبق أمامكم سوى تشفير همساتكم.. تشفير حتى القبلة على جبين أحبائكم.. والتشفير المقصود هو دعوة للعودة الى دروس (عِلم التعمية) القديم..بعد أن ينتهي هذا الكابوس سنكون أمام الكثير من الدروس التي يجب أن نتعلمها.
(الخليج الإماراتية)