تقدير موقف

"التطهير العرقي" في فلسطين.. لحن الدم والنار (2/3)

هناك إجماع من كل الكتّاب والمفكرين المنصفين شرقًا وغربًا على أنّ المذابح التي ارتكبتها العصابات اليهودية – سواء قبل إعلان الدولة أو بعدها - كانت أحد أبرز الأسباب في هجرة جزء كبير من أصحاب الأرض الفلسطينيين، وقد قال عنها المؤرخ الفلسطيني إلياس صنبر "إنها مثلت الشريك الثابت في جميع المعارك، ومنحت العمليات المتعددة عنصر التواصل، لتقيم ارتباطًا بين الفصول المتوالية للطرد: الرحيل أو الموت".

أصبح القتل والإرهاب من أمور الحياة اليومية الطبيعية. وكان اليهود يستولون على أراضي الفلسطينيين دون حق، ويهجروهم دون مبرر، ويتباهون بذلك. وهو ما يُعد شكلًا من أشكال طرد السكان (الترانسفير) أو التطهير العرقي.

فتاة من أفراد العصابة اليهودية التي نفذت مذبحة دير ياسين "عرضت يديها وهما تقطران دمًا وكأنهما ميدالية حرب"

في مطلع أبريل/نيسان عام 1948 وجه المناضل الفلسطيني عبد القادر الحسيني (ت 1948) مذكّرة لأمين عام جامعة الدول العربية، حمّل فيها جامعته مسؤولية ضياع فلسطين، وفي الثامن من الشهر ذاته استشهد البطل عبد القادر الحسيني بعد تحريره القسطل، وبعد ذلك بيوم واحد جرت مذبحة دير ياسين؛ ففي أبريل/نيسان عام 1948 هاجم الصهاينة قرية دير ياسين على أطراف القدس، فجمعوا معظم سكانها الستمائة وبعد نهب كل ما له قيمة في القرية التفت الصهاينة إلى غنائمهم البشرية فذبحوا الرجال والنساء والأطفال من دون رحمة، لقد ذبح في تلك الواقعة حوالى 250 عربيًّا كان بينهم 25 امرأة حبلى شقت بطونهن عمدًا، و52 من الأمهات اللاتي يحملن الرضع على صدورهن علاوة على ستين امرأة وفتاة أخرى، ومزق الأطفال الصغار إربًا تحت أنظار أمهاتهم.

وقد شهد على تلك المذبحة جاك دو رينيه رئيس بعثة الصليب الأحمر الدولي في فلسطين، الذي زار بنفسه دير ياسين 1948 وفحص القبر الجماعي، وشاهد أكوام القتلى ووضع تقريرًا بالفرنسية عن ذلك.

ويصف رينيه الإرهابيين الذين نفذوا المذبحة في دير ياسين بالقول "إنهم شبان ومراهقون، ذكور وإناث، مدججون بالسلاح، وأكثرهم لا يزال ملطخًا بالدماء وخناجرهم الكبيرة في أيديهم، وقد عرضت فتاة من أفراد العصابة اليهودية يديها وهما تقطران دمًا، وكانت تحركهما وكأنهما ميدالية حرب".

ويضيف قائلًا: "دخلتُ أحد المنازل فوجدتُه مليئًا بالأثاث الممزق وجميع أنواع الشظايا، ورأيت بعض الجثث الباردة، حيث أدركت أنه هنا تمت التصفية بواسطة الرشاشات والقنابل اليدوية والسكاكين!! وعندما هممتُ بمغادرة المكان سمعتُ أصوات تنهدات، وبحثت عن المصدر فتعثرت بقدم صغيرة حارة، لقد كانت فتاة في العاشرة من عمرها مزقت بقنبلة يدوية، لكنها ما تزال على قيد الحياة، وعندما هممتُ بحملها حاول أحد الضباط الإسرائيليين منعي، فدفعته جانبًا! ثم واصلت عملي، فلم يكن هناك من الأحياء إلا امرأتان إحداهما عجوز اختبأت خلف كومة من الحطب، وكان في القرية 400 شخص، هرب منهم أربعون، وذبح الباقون دون تمييز وبدم بارد".

وتباهى مائير باعيل قائد الوحدات الخاصة في "الهاغاناه"، في حديثه لـ"يديعوت أحرونوت" سنة 1948 بأنه قُتل الرجال والنساء والأطفال دون تردد مصفوفين على الجدران وفي زوايا المنازل.

ويروي الطبيب الفريد أنجل من نجمة داود الحمراء الذي دخل القرية مشاهد الرعب في القرية بقوله "كنتُ طبيبًا في الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى، ولم أرَ مشهدًا مرعبًا كهذا".

المجازر تتواصل

لم تكن دير ياسين أول قرية فلسطينية تعتدي عليها القوات الصهيونية نسفًا وقتلًا، فهناك مذابح أخرى تماثلها دموية، وكلها موثّقة، مثل (العباسية، وأبو شوشة، وعين الزيتون، وبلد الشيخ، وبيت دراس، وبئر السبع، وحيفا، والحسينية، وأسدود، وقيسارية، وسعسع، وصفصاف، والطنطورة)، والعشرات غيرها.

وشردت العصابات الصهيونية الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، ودمروا بعد قيام الكيان نحو 478 قرية من أصل 585 قرية كانت قائمة قبلها، وارتكبوا 34 مجزرة خلال حرب 1948 بمدنيين فلسطينيين أثناء عملية التهجير. ومن يحاول البقاء من الأهالي ويتمسك بأرضه يتعرض للموت المحقق.

وفي دراسة للمؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة، توضح أنه خلال 1947 – 1948 احتلت القوات الصهيونية 530 مدينة وقرية عربية تشكل 92% من مساحة "إسرائيل" سنة 1949. وأنها شردت 85% من مواطني تلك المدن والقرى ما بلغ 805 آلاف. وأنه بين صدور قرار التقسيم في 29/11/1947 ونهاية الانتداب في 15/5/1948 طردت القوات الصهيونية 52% من اللاجئين من 213 مدينة وقرية، وخلال الفترة الممتدة حتى توقيع اتفاقيات الهدنة الدائمة في ربيع 1949 طردت 42% من اللاجئين من 264 مدينة وقرية، وطردت بعد توقيع تلك الاتفاقيات 6% من اللاجئين وبعد كل ذلك قرر اليهود منع عودة اللاجئين العرب إلى بيوتهم في فلسطين في الفترة بين أبريل/نيسان ويونيو/حزيران 1948، وأقرت من جديد في 18 أغسطس/آب 1948.

فاجعة حضارية وتواطؤ دولي

كانت نكبة فلسطين في أهلها، وأرضها، وثقافتها، وتاريخها، وفي مشهدها الحضاري؛ فقد طمس الصهاينة آثار مئات القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، ماحين بذلك المراكز التاريخية، وما احتوته من مساجد وكنائس ومقامات، ولم تسلم المقابر كذلك، وهناك إحصائية ترصد مجموع المباني التي دمرت، وكانت موجودة عام 1931 قد وصل عددها إلى 50.399 مبنى، والمقصود بالمبنى هنا المساكن فقط حيث لا تشمل المباني العامة سواء الإدارية منها أو الدينية أو التعليمية، وأخذًا بعين الاعتبار ما بني من مبانٍ خلال الفترة 1931 وحتى 1948، فإنّ العدد سيصل بالتأكيد إلى حوالى 70.000 مبنى قد دمر في القرى والبلدات الصغيرة، وهذا العدد لا يشمل آلاف المباني التي دمرت في المدن (حيفا ويافا واللد والرملة وطبريا وصفد وعكا وبئر السبع والقدس)؛ ولذا فإنّ تقدير العدد الكلي بحوالى 100.000 ليس مبالغًا فيه على الإطلاق، وهذا يعطي صورة تقديرية لحجم النكبة.

التهجير كان مدروسًا على أرفع المستويات الصهيونية والبريطانية والأمريكية

كل ذلك تم تحت سمع وبصر القوى الأوروبية العظمى وقتها وبمباركة دولية واسعة النطاق، وأعطت كل من هذه الأعمال ثمارها؛ فكان النزوح الجماعي الكبير الذي لم تشهد له فلسطين مثيلًا من قبل، والأسباب باتت واضحة للعيان، فلم يأتِ هذا التهجير والإجلاء عفويًّا أو مجرد مصادفة، بل كان مدروسًا على أرفع المستويات الصهيونية، والبريطانية، والأمريكية، وفي سبيل تلك الغاية صيغت أخطر الخطط المدروسة في عناية فائقة لإقامة دولة "إسرائيل" على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني.

لقد بارك الغرب وما زال يبارك الإبادة والمجازر.. ولكن جاء اليوم الموعود.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن