حالة تشنج يعانيها القرن الإفريقي، وحروب منخفضة الحدّة تتشكّل في رحم المنطقة؛ لكنها قابلة للتصعيد الخشن، بما يرفع حرارتها إلى درجة "الخطر الشديد" على الإقليم والعالم. تنهمك إثيوبيا ومصر في صراع على جبهات كثيرة في أنحاء المنطقة. أديس أبابا كسبت جولات عدة خلال السنوات العشر الماضية، وكادت تعلن "انتصاراً كاملاً". لكن يبدو أن مصر عادت مرّة أخرى بنقلة محسوبة بعناية إلى رقعة القرن الإفريقي، وأعادت انتباه العالم إلى الإقليم، بعدما كاد ينسى قضاياه المشتعلة. فما الذي يجري وما هي آفاقه؟!
احتضنت العاصمة الإريترية، أسمرة، قمة بين رؤساء مصر وإريتريا والصومال، شدّدت على ضرورة الحفاظ على وحدة الصومال، في مواجهة أي إجراءات تنتقص سيادته، في ردّ صريح على اعتراف إثيوبيا بأرض الصومال الانفصالية كدولة مستقلة، وإبرام مذكرة تفاهم معها، في كانون الثاني (يناير) الماضي؛ لاستئجار 20 كلم على ساحل خليج عدن، ما يهدّد بتمزيق وحدة الصومال.
استشاط الصومال غضباً، ووصف الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بـ"شرير القرن الإفريقي"! كانت مصر من أولى الدول التي رفضت الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال، وطالبت باحترام القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي، والذي ينص على الدفاع عن سيادة الدول الأعضاء ووحدة أراضيها وعدم التدخّل في شؤونها.
تشرف الصومال على مدخل البحر الأحمر، الذي يشكّل البوابة الجنوبية لقناة السويس، والخطوات الإثيوبية العدوانية تجاهها تهدّد الأمن القومي المصري؛ وتقوّض الاستقرار الهش في القرن الإفريقي.
تمتد العلاقات المصرية - الصومالية إلى آلاف السنين، وهي تكتسب حالياً قوة دفع إضافية مع استفحال الصراعات في القرن الإفريقي، التي تضمّ إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي، وعصفت بها حروب كثيرة، دارت رحاها بين إثيوبيا والصومال، وقادت لانهيار الدولة الصومالية، إثيوبيا وإريتريا، حرب أهلية في إثيوبيا؛ كلمة السر في توترات الإقليم هي أدوات القوة لدى إثيوبيا؛ أيقظت محاولاتها للسيطرة على إقليم "أرض الصومال" مخاوف الصومال وإريتريا وجيبوتي، وأججت الخصومات في المنطقة، بالإضافة إلى تهديد أمن مصر والسودان المائي بسد النهضة.
الثمن باهظ
إثيوبيا أكبر لاعب في القرن الإفريقي، تمنّي النفس بفرض هيمنتها على مياه النيل والوصول إلى البحر الأحمر، مهما يكن الثمن باهظاً أو دامياً؛ ما يجعل دورها محورياً في الديناميات الجيوسياسية في قلب إفريقيا. في المقابل، يمثل أمن القرن الإفريقي أحد ركائز الأمن القومي المصري. تشرف المنطقة على نهر النيل والبحر الأحمر، ولا تستطيع القاهرة أن تقف متفرجة، أمام تحدّيات عاصفة تهبّ عليها من الجنوب، وتؤثر بشدة على مصالحها.
مصر هي الكيان الأقوى في إفريقيا، تحاول طوال الوقت حماية أصولها الاستراتيجية خارج حدودها، بكل أبعادها العسكرية والاقتصادية والثقافية، إلخ؛ بوصفها أهدافاً طبيعية للجهد الجيو- سياسي المصري؛ لهذا تقدّم القاهرة الكثير من المساعدة لمقديشو، لإعادة بناء الجيش الصومالي؛ للحفاظ على وحدة أراضيه؛ كي يتصدّى لأي محاولات غزو إثيوبي. كذلك الحال بالنسبة لإريتريا التي تمرّ علاقتها بإثيوبيا بتوتر مكتوم.
أظهرت القمة الثلاثية في أسمرة، حالة التوافق بين مصر وإريتريا والصومال على سلامة الملاحة الدولية في البحر الأحمر. ويعتمد مستقبل الأمن البحري في القرن الإفريقي على التوازن بين حماية المصالح المشروعة، واحترام السلامة الإقليمية، ما يؤكّد أهمية تعزيز التعاون المشترك لصيانة مصالح شعوب المنطقة، وتضييق الخناق على دعاة الفوضى، سواء من الميليشيات أو الدول.
نقلات استراتيجية
أيضاً تتكثف الجهود لتحقيق الاستقرار في السودان، وتوطيد التعاون، جنوب البحر الأحمر، في جميع المجالات، مع احتمال انضمام السودان وجيبوتي إلى أطراف قمة أسمرة. فيما تكبّدت مصر خسائر فادحة على المستويات كافة، نتيجة غيابها عن إفريقيا، خلال الثلاثين عاماً الماضية؛ تعرّض أمنها القومي لأخطار وجودية، خصوصاً في قضية سد النهضة وتوابعها، وأهدرت فرصاً هائلة، ومنحت قوى منافسة الفرصة لملء الفراغ الذي تركته. اليوم تعمل مصر جاهدة لتصويب مسار علاقاتها مع شعوب القرن الإفريقي، لكن تحركها خطوة تأخّرت كثيراً.
فيما الاتفاقات العسكرية وغير العسكرية التي أبرمتها القاهرة مع الدول المحيطة بإثيوبيا، مثل أوغندا وكينيا وإريتريا والصومال، تعزز دور مصر كلاعب رئيس في الإقليم، بالتحالف مع دوله على قاعدة تلاقي المصالح. هذا يبعث برسائل واضحة في بريد أديس أبابا، ويجعل من هذه الاتفاقيات "مؤشرات جادة" إلى إمكان "العمل على الأرض"، عند اللزوم... قد لا تكون العلاقة غير مباشرة، لكن اللافت أن أوغندا أعلنت، عقب القمة الثلاثية، إرجاء الاجتماع الأول لدول اتفاقية "عنتيبي"، وهي اتفاقية تراها مصر والسودان مجحفة.
الأجواء متوترة والاحتمالات مفتوحة، لكن الرهان على أن تبرد العقول في الرؤوس، حتى لا تخرج الأمور عن حدود "اللعب النظيف"، أو الضرب تحت الحزام؛ وفي كل الأحوال لم يمكن نسيان أن دولاً إقليمية وقوى عالمية تمسك بـ"عصا المايسترو" التي تحدد حركتها صعوداً أو هبوطاً، درجة حرارة الأحداث في القرن الإفريقي!
(النهار العربي)