وجهات نظر

إسرائيل وحدها في حلبة الملاكمة!

تأسست إسرائيل وخاضت حروبها الأولى ضدنا على أرضية الصهيونية العلمانية. تقدمت مرارًا وتراجعت نادرًا، سواء عسكريًا أمام مصر (أكتوبر/تشرين الأول 1973) أو استراتيجيًا أمام "حزب الله" (2000، 2006). لكن سرعان ما انزلقت الصهيونية العلمانية إلى صهيونية دينية، أكثر عنفًا وتطرفًا، استعادت عقدة الخيرية والاستعلاء التوراتية، وسلّحتها بكل ممكنات الحداثة التقنية، لتجعل منها "مانيفستو" للتطهير العرقي في قبضة آخر دولة استيطان عنصري، لا تزال تحتل، في القرن الحادي والعشرين لميلاد المسيح، أراضي الآخرين بذريعة عهد توراتي يسبق هذا الميلاد بأكثر من ألف عام.

إسرائيل وحدها في حلبة الملاكمة!

في حربها الوحشية ضد غزّة ولبنان طيلة العام المنصرم، سواء بحجم الدمار أو بأرقام الضحايا من المدنيين الأبرياء، أو بعدد جرائم الإبادة التي ارتكبتها رغم أنف المواثيق والاتفاقيات والقرارات الدولية، تتبدى إسرائيل كمولود تاريخي لقيط، أناني وسادي، تدفعه أنانيته إلى القمع، وتزيد ساديته من توقه النهم إلى مشاهدة روايته التاريخية عن التيه والشتات والاضطهاد النازي المقيت معادة أمام عينيه، ومصورة للغير في دراما إنسانية أكثر مأساوية، يزيد من تعقيدها ويعيد إنتاجها باستمرار هاجس الأمن وعقدة الخوف الأبدي التي تصاحب كل كائن لقيط لا يجد لنفسه صكوك نسب إلى الزمن، حيث تصبح القوة، مع المبالغة في إظهارها، هي الوثيقة الرئيسية، وصك النسب الوحيد، الأمر الذي يحيل هذا الكائن اللقيط إلى ملاكم في حلبة واسعة يلاكم من فوقها الجميع، حتى في أوقات الراحة بعد نهاية كل جولة، بل وبعد نهاية المباراة نفسها خوفًا من الهزيمة/العدم، ولو بدا انتصاره واضحًا في كل جولة سابقة، لأنه لا يثق، ولا يمكن أن يثق، لا في خصمه ولا في الحكم/التاريخ، ولا حتى في قواعد اللعب التي تجعله محدودًا بزمن لا بد وأن ينقضي.

الشعوب العربية لم تعد مكترثة بعد أن أنهكها حكامها بمقتضيات تأبيد السلطة من تعميم الاستبداد وقهر الإرادة

تلك هي إسرائيل، التي اعتدناها منذ عقود، لا جديد لديها عندما تقتل المدنيين العزل أو حتى المصلين في مسجدهم المقدس، لكن الجديد حقًا هو ما صار عندنا، تلك البلادة التي أصابتنا ونالت من معنى الشرف وقيمة النخوة عندنا. فقد كان معتادًا أن يفور الجمهور العربي إلى شوارع العواصم الكبرى، منددًا ومهددًا، حارقًا الأعلام الإسرائيلية ومعها الأمريكية، موجهًا سبابه إلى الغرب "الصليبي"، إلى أمريكا الإمبريالية، وأوروبا الاستعمارية. ولا يزال المرء يتذكر واقعة اغتيال محمد الدرة قبل ربع قرن تقريبًا، وكيف تحولت رمزية الطفل الصغير إلى أيقونة فلسطينية فاضحة للممارسات الإسرائيلية، ولغشم السلاح، خصوصًا وقد بثت صورته جميع وكالات الأنباء الأجنبية بعد العربية إلى أربعة أنحاء العالم، فأبكت الكثيرين، وأوجعت ضمائر الآخرين.

في مثل هذه المناسبات أو ما يشبهها، كانت تُعقد المؤتمرات العربية سواء الوزارية أو الرئاسية، وكذلك المؤتمرات الإسلامية، لتعلن تنديدها بالمحتل، وإدانتها للصمت الدولي، والتواطؤ الأمريكي. كما تعبّر عن تجاوبها مع إرادة الشعوب العربية والمسلمة الرافضة للاحتلال وعدوانيته الغاشمة، ولو لم يكن التنديد كافيًا لكبح جماح العدوانية الإسرائيلية، ولا كان الشجب رادعًا لحماقاتها.

اليوم، لم تعد المؤتمرات تُعقد من الأصل، ولا الإدانات تصدر بصوت عال، ولم نعد نملك سوى استجداءات يصدرها وزير خارجية هنا أو متحدث رئاسي هناك، يدعو العدو إلى عدم التصعيد. والمفارقة الكبرى، بعد وقت آخر، هي أنّ الشعوب نفسها لم تعد مكترثة لا بالشجب ولا بالإدانة، بعد أن أنهكها حكامها وحكوماتها بمقتضيات تأبيد السلطة من تعميم الاستبداد وقهر الإرادة وأحيانًا شظف العيش، وهو ما أدركته إسرائيل، فتيقنت أنّ الزمان هو زمانها، وأنّ المنطقة صارت ملعبها، خصوصًا وقد صارت صديقة لجل حكامنا، موضع سرهم، يعقدون معها صفقاتهم، يلتقون كبار مسؤوليها ليلًا وينفون ذلك ظهرًا، يطلبون ودها بدلًا من ود شعوبهم، ويخطبون قرارها بدلًا من إرادة مواطنيهم، فما الذي يمنعها من أن تعربد في كل أرض، وأن ترفع كل سيف، وأن تقتل كل بشر، وأن تهدم كل عمران وأن تدوس على كل المقدسات بأرجلها الغليظة؟..

أتمنعها قيمها السياسية وادعاءاتها الديمقراطية، كيف وهي دولة احتلال استيطاني لا تبغي سوى اجتثاث السكان الأصليين، بدعوى ملكيتها لأرضهم حسب عهد الاختيار الإلهي؟..

العرب أمعنوا في الشعور بالضعف والدونية

أيمنعها النظام العالمي الذي لم يتمكن في يوم من الأيام أن يفرض عليها قرارًا واحدًا في ظل وجود الفيتو الأمريكي المعد دائمًا للاستخدام مثل صاروخ باليستي مثبت على قاعدة صخرية صلبة، وجاهز دومًا للانطلاق؟..

أتمنعها قوة العرب الذين أمعنوا في الشعور بالضعف والدونية إلى الحد الذي لم يعد الآخرون يعيرون اهتمامًا لإداناتهم أو حتى لتوسلاتهم؟.

لن يمنعها ذلك كله، بل فقط تلك القوة الكامنة في صدور مناضلين أحرار من طراز البطل الأسطوري يحي السنوار.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن