تابع كاتب هذه السطور مع عشرات ملايين الناس في بلدان وأصقاع العالم نتائج فَيْض استطلاعات الرأي التي أشارت أغلبها إلى ميْل الناخبين الأميركيين إلى ترجيح، ولو بفارقٍ ضئيلٍ جدًّا، كفّة المرشحة الديموقراطية كمالا هاريس التي هي الابنة الشرعية لـ"المؤسسة" الحاكمة في واشنطن، على منافسها الجمهوري ترامب المحلّق في أعلى سماوات اليمين الفاشي المُسْرف في الجلافة.
ولعل ما أسبغ على نتائج هذه الاستطلاعات قدرًا من المعقولية أنّ الأميركيين ومعهم العالم كله سبق وجرّبوا الآثار الكارثية للفترة الترامبية السابقة، لذلك بقيت عودته كابوسًا مروّعًا يصعب تصديقه، تستبعده القلوب الوجلة... لكن الانتخابات جاءت بالكابوس فعلًا، بكل أسف!!
تيار الفاشية يُداعب غرائز بسطاء الناس ويلعب على ضعف إدراكهم ونقص تعليمهم وتشوّه وعيهم
لقد أظهرت الحملة الانتخابية الأميركية الأخيرة، كما في انتخابات العام 2016، حقائق خطيرة في بلدٍ تفيض مآثره كما كوارثه ومصائبه إلى خارج حدوده إلى العالم كله، أولى هذه الحقائق وأهمّها، ذلك التناقض الفاحش بين كتلتَيْن وتيارَيْن بائسَيْن يتصارعان بقوّة وقسوة في مجتمع الإمبراطورية الأميركية حاليًا، فأمّا عن "البؤس" فإنّ أوضح مظاهره أنّ المرشحَيْن الاثنَيْن (هاريس وترامب) لم يتنافسا انتخابيًا فحسب، وإنما سابقا بعضهما إلى استقطاب نسبة كراهيّة شعبيّة متقاربة جدًّا في العدد لكن الأسباب والدوافع مختلفة لحدّ التناقض.
التياران اللذان يُفترض أنّ المرشحَيْن الاثنَيْن عبّرا عنهما بالانتماء الحزبي، أوّلهما يمثل المؤسسة الحاكمة العريقة والعائد عمرها إلى فجر تأسيس الدولة الأميركية، وهو تيّارٌ شبه موحد (إيديولوجيًّا) على الرغم من تنوّعه وتوزّعه على حزبَيْن كبيرَيْن (الديموقراطي والجمهوري)، غير أنه بدأ في العقد ونصف العقد الأخير، يعاني من وهنٍ وأعراض شيخوخةٍ نتج عنها شيء من التصدّع والتشقّق الذي ربما مَر منه الرئيس الأسبق باراك أوباما، بيْد أن "الأوبامية" لم تستطِع ولا كانت كافية لإدخال تحديث وتغيير دراماتيكي في طبيعة هذا التيار وآلياته والانحيازات التقليدية لنخبته إلى الفئات والطبقات الأكثر قوّةً ماليًّا واقتصاديًّا والأوسع نفوذًا ضمن تنوّعات الثقافة والفكر في المجتمع الأميركي، وربما هنا مكمن بؤس تيار "المؤسسة" وتراجع قوته.
أما التيار الثاني الذي يُجسّد "دونالد ترامب" أقبح تجلّياته، فهو يزايد في التطرّف اليميني على أسوأ مكوّنات مؤسسة الحكم الأميركية العتيدة، لكنه يستمدّ قوّته من مصدرَيْن معروفَيْن ومتكرّرَيْن في تاريخ المجتمعات الإنسانية الحديث، ابتداءً من ألمانيا النازيّة في النصف الأول من القرن الماضي حتى كل البلدان التي ابتُليت بالفاشيّة في عالمنا.
أول المصدرَيْن، هو تضعضع الطبقة الحاكمة تحت وطأة فشلِها وفسادِها، والثاني توسُّل الفاشيين بخطاب شعبوي فارغ وسطحي يُداعب غرائز جحافل وكتل بسطاء الناس ويلعب على ضعف إدراكهم ونقص تعليمهم وتشوّه وعيهم، ومن ثم ينجح تيّار الفاشيّة في استثارة حماس هذه الجحافل والكتل وتهييج مشاعرها، تمهيدًا لحشد وتعبئة أصواتها في صناديق الاقتراع.
لأمّتنا العربية نصيبٌ وافر من مصائب ترامب المنتظرة فهل نتوحَّد لمجابهتها؟!
الخلاصة... إنَّ المصيبة الترامبية وقعت فوق رأس سكّان الكوكب كله للمرة الثانية، لكنها هذه المرة تبدو أشدّ وطأة وأفدح قوة، على نحو ما تشي به قائمة الشخصيات التي اختارها ترامب حتى الآن لتولّي المناصب الرئيسيّة والحسّاسة في إدارته، ابتداءً من نائب الرئيس التافه "جي دي فانس"، مرورًا بوزير دفاعه "بيت هيغسيث" وهو مذيع تلفزيوني مغمور وتافه أيضًا عمل في محطة "فوكس نيوز" اليمينية، وكذلك النائبة "إليز ستيفانيك" المرشّحة لمنصب سفير أميركا لدى الأمم المتحدة، وهي المعروفة بانحيازها الدائم لإسرائيل وبتهجّماتها البذيئة على المنظمة الدولية وكذلك دورها النشط داخل أروقة مجلس النواب في مجابهة انتفاضة الجامعات الأميركية العام الماضي نصرةً لفلسطين، كما أنّ القائمة تتزيَّن بأسماء أخرى كريهة ومُخجلة، ربّما من أسوأ هذه الأسماء سفير ترامب في الكيان الصهيوني "مايك هوكابي" الذي لم يكتفِ بصهيونيته الفجَّة وانما زادها بتصريح قال فيه إنّه "لا يوجد شيء اسمه فلسطيني!!"
وحتى تكتمل ملامح قبح القائمة الترامبية وفجاجتها المروّعة، فقد اختار (مات غايتس) نائب مطرود من الكونغرس بتهمة "سوء السلوك الجنسي، وتعاطي المخدرات، وتلقّي هدايا (رشاوى) غير لائقة"، ومع ذلك هو مرشّح لتولّي منصب وزير العدل.
إذَنْ لأمّتنا العربية نصيبٌ وافر من مصائب ترامب المنتظرة، فهل نستفيق ونتوحَّد لمجابهتها؟!... نتمنّى.
(خاص "عروبة 22")