أشاهد يوميًّا ثلاث نشراتٍ إخباريّة صباحيّة، لقنواتٍ إخباريّة دوليّة مختلفة. اللافت، والذي أحسبه لم يعد يستوقف أحدًا للأسف أنّ الخبر الأوّل لما يزيد عن عامٍ كاملٍ لا يكاد يتغيّر عدا بعض التفاصيل: قنابل (إسرائيلية/أميركية) توزَن بالأطنان تُلقى على هذا المربّع السّكني (أو المخيّم) في هذا الحيّ أو ذاك من غزّة (المحاصَرة)، أو شمالها، أو بيروت (العاصمة)، أو جنوبها. لا شيء يتغيّر. حتى صوَر الدّمار، التي لم يعد بالإمكان تمييزها، وحتى أرقام الضحايا (ومعظمهم من النّساء والأطفال).
لا تغيير (يوميًّا) فيما نشاهد أو نسمع، غير ما يأتينا من حينٍ لآخر عن فيتو أميركي يُجهض قرارًا أمميًّا بوقف الحرب والعدوان. فيما يبدو للمشاهد وكأنه لا يعدو أن يكون محاولة من محرّر النشرة لكسر رتابتها اليوميّة بخبرٍ قد يبدو مختلفًا، وإن لم يكن، بحكم طبيعته ونتيجته سوى تذكير ببيت المتنبّي، وبجديد "النِّصال"، أو أصحابها والتي من شأنها أن تتكسّر على ما سبقها يوميًّا من "نِصال".
العدو لا يريد سلامًا حقيقيًّا بل استئصال لكل ما هو فلسطيني ثم بعد ذلك هيمنة مطلقة على الإقليم بأكمله
عدا ذلك، تمضي الحياة (العربيّة)، هنا وهناك، وترفرف أعلام العدوّ في غير عاصمة (عربيّة). ويكذب علينا البعض، أو يحاول أن يكذب على نفسِه، محاولًا تبرِئتها من الذّنب مردّدًا المقولة الإسرائيليّة عينها، التي ما فتِئت تروّج لأكذوبةٍ أنّ كل هذا بدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وأنّ المقاومة وحدها المسؤولة عن كل هذا الدّمار، والمذابح، والدّماء، إن في غزّة أو في لبنان، ناسين، ليس فقط أنّ تاريخ المذابح "والنّكبة" يمتدّ إلى أكثر من قرن، بل وحقيقة أنّ "العدو" المسؤول تاريخًا وقانونًا عن تلك الدّماء والمذابح، لا يريد سلامًا حقيقيًّا، وإن زعمَ ذلك، بل استئصال؛ ليس للمقاومة كما يدّعي، بل لكل ما هو فلسطيني. ثم بعد ذلك هيمنة وسيطرة مطلقة على الإقليم بأكمله.
على طاولتي عديد الكتب (لكتّاب إسرائيليّين ويهود) التي تحكي لنا تفصيلًا، وبالوثائق كيف جرت قبل عقود من نشأة تنظيمات المقاومة تلك المرحلة الأولى من الإبادة والتطهير العرقي للشّعب الفلسطيني (المرحلة الثانية بدأت بالمناسبة). أعرف أنّ القارئ الكريم يعرف قطعًا كتاب إيلان بابيه، المؤرّخ الإسرائيلي - البريطاني الشّهير، الصادر قبل عشرين عامًا، والذي يكفي عنوانه الواضح تذكيرًا بالجريمة وإدانةً للمجرمين: "التطهير العرقي في فلسطين The Ethnic Cleansing of Palestine"، ولكنّني اليوم، في زمن الصورة الذي يوجعنا تكرارها اليومي في نشرة الأخبار، أودّ الإشارة إلى كتابٍ مصوّر ربما لا يعرفه الكثيرون. لا أعرف صاحبَه، ولكنه صدر فيما يبدو قبل أكثر من نصف قرن، ويقدّم سجلًّا بالصّوَر في 83 صفحة لجرائم "الإبادة الجماعيّة" التي ارتكبها الصهاينة بحق الفلسطينيّين الآمنين في النّصف الأول من القرن الماضي، وتحديدًا من عام 1921 إلى عام 1938 (هذا رابط لنسخة إلكترونية من الكتاب لمن أراد الاطّلاع عليه).
أطماع إسرائيل التوسّعية تؤكّدها قراراتها بضمّ القدس والجولان والضفّة الغربيّة عمليًّا وإن لم يصدر القرار بعد
وكأنّ "الشّهادة أو الاستشهاد" قدرٌ فلسطينيٌ بالتعريف، أو بالتاريخ. فبعد عقود من الكتاب المصوّر، الذي اختار له صاحبه عنوان "فلسطين الشّهيدة - سجل مصوّر لفظائع الإنكليز واليهود"، أصدر الأكاديمي اليهودي الأميركي المثابر نورمان فينكلشتاين كتابه عن "غزّة: بحث في استشهادها Gaza: An Inquest into Its Martyrdom". بالمناسبة الكتاب صدر عام 2018 أي قبل هذا السابع من أكتوبر/تشرين الأول الذي يريد لنا البعض أن نصدّق أنّ مأساة غزّة (المحاصَرة لسبعة عشر عامًا كاملة) لم تبدأ إلّا بما فعلته المقاومة يومها. قد لا يكون تشابه العناوين هنا أكثر من مصادفة، ولكنّه "تشابه" محمّل بالدّلالات، ومضرّج بالدّماء.
أتفهّم أنّ هناك من تؤلمه صور "النّشرة اليوميّة"، كما أدرك أنّ بيننا من لا يرى أبعد من موطئ قدمَيْه، فيتحفّظ على ما جرى من فعلٍ مقاوم، مختلفًا حول "الحسابات، والتوقيت"، ولكنّي لا أظنّ أنّ هناك من لا يعرف أنّ إسرائيل ترفض ابتداءً قيام دولة فلسطينيّة (من حيث المبدأ بالمناسبة)، وأنّها "دولة احتلال" بموجب القوانين الدوليّة، وأنّ أطماعها التوسّعية لا تخفى على أحد، تؤكّدها ليس فقط تصريحات مسؤوليها، وخطط مراكزها البحثيّة "الاستراتيجيّة"، بل قراراتها المخالفة للقانون بضمّ القدس؛ دستوريًّا (1980)، والجولان (1981)، والضفّة الغربيّة؛ عمليًّا وإن لم يصدر القرار بعد، ناهيك عن الخطط المعدّة بشأن مستقبل غزّة وسيناء، والتي أشرت إلى تفاصيلها هنا في مقال سابق.
ما نشاهده اليوم ليس أكثر من صورة "ملوّنة" لما كان يجري تصويره بالأبيض والأسود على مدى ما يزيد عن قرن
كما أخشى أنّ الذين يتحفّظون على "التّوقيت"، لم يستمعوا جيّدًا لخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي على منصّة الأمم المتحدة، وقبل أسبوعَيْن فقط (لاحظ التوقيت) من السّابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 يعلن بكل ثقة نهاية الصّراع العربي - الإسرائيلي (هكذا)، ويسدل الستار على "القضيّة الفلسطينيّة"، رافعًا خريطته (هو) لشرق أوسط جديد، بمعاييره، ومواصفاته. "وليس لأحد حقّ الاعتراض" كما لم يتحرّج من أن يقول نصًّا في كلمته.
وبعد،
وكأنّ أبا الطّيب يعيش بيننا ليقرئنا: "وَحالاتُ الزَّمانِ عَلَيكَ شَتّى / وَحالُكَ واحِدٌ في كُلِّ حالِ".
فقد تختلف التّقنيّات، وأسلحة الموت والدّمار، ولكن ما نشاهده على شاشة التلفاز اليوم، ليس أكثر من صورة "ملوّنة" لما كان يجري تصويره بالأبيض والأسود على مدى ما يزيد عن قرنٍ من الزمان. الجريمة واحدة، والصوَر واحدة... وإن اختلفت التواريخ.
نسأل الله أن يرفع عنّا ما تقاعس حكامنا وجيوشنا عن التصدّي له، جريمة بدأت قبل ما يزيد عن القرن... وما زالت مستمرّة "على الهواء مباشرة".
(خاص "عروبة 22")