زلزال سوريا يشبه لحدٍّ بعيد في تداعيّاته واستهدافاته زلزال العراق الذي أدّى إلى سقوط بغداد في 9 نيسان 2003 فأحدث تحوّلاتٍ استراتيجيّة و"سوبر دمويّة" هائلة في المنطقة التي دخلت في مدار التّخادُم الأميركي - الإيراني منذ 21 عامًا. وقد نتج عن هذا التّخادم انطلاقًا من غزو العراق تغوّل إيران في البلاد العربيّة واحتلاله عسكريًّا، بالدبّابات الأميركيّة، ومعنويًّا، بالشّعارات والصّواريخ الصّوتيّة القادرة (وفقًا لسيمفونيّة دهاقنة إيران وجنرالاتها) على "تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف"، وعبر هذه السّيمفونيّة المرفقة بشعار خامنئي "سنصلّي في القدس" أحكمت إيران تغوّلها في عدّة بلدان عربيّة.
كشف "طوفان الأقصى" أنّ إيران لا تمتلك سوى ترسانة "صواريخ صوتيّة"
فترة التّخادم الأميركي الإيراني التي استطالت زمنيًّا، جعلت إيران في طور تعاظم نفوذِها تتصرّف وكأنّها باتت دولة إقليمية عُظمى، تمتلك مفاتيح الحرب والسّلم في المنطقة ومعها الممرّات البحريّة من باب المندب إلى مضيق هرمز وبينها البحر المتوسّط، ما جعلها تتوهّم باقتدارها الحاسم على فرض "أجندتها" ليس على البلدان المتغوّلة فيها فحسب، وإنّما على الولايات المتحدة شريكتها في التّخادم خصوصًا بعد الرّقصة النّوويّة الأوباميّة الخامنئيّة الشّهيرة، والتي ألغى دونالد ترامب الوافد الجديد إلى البيت الأبيض نوتات عزفها، وكسر طبلتها بقتله رمز قوّتها الخارجيّة قاسم سليماني.
على الرّغم من هذا، استمرت إيران في إيهام نفسها وأذرعها في المنطقة بشعاراتها وصواريخها الصّوتية، إلى أن توالت الضّربات المجهولة المعلومة عليها قصفًا وتفجيرًا واغتيالًا في طهران وغيرها، ما جعل هيبتها تتآكل لأبعد الحدود. وقد كشف "طوفان الأقصى" أنّ إيران لا تمتلك سوى ترسانة "صواريخ صوتيّة" ذخّرتها مرتَيْن لزوم الرّدّ على قصف إسرائيل قنصليّتها في دمشق، واغتيال زعيم حركة "حماس" في ضيافتها، أمّا التّذخير الثّالث ردًّا على الرّدّ الإسرائيلي فبقي معلّقًا في الهواء بعدما فقد كل أهمّيته بفعل الانكسارات التي أصابت "محور المقاومة" وأبلغها نجاح العدوّ الإسرائيلي في اغتيال "أيقونة المحور" ورمزه حسن نصر الله الذي يمكن اعتبار اغتياله بمثابة الزّلزال الذي لم يفوقه إلّا زلزال سوريا وخروجها من "محور المقاومة" وعليه.
"الزلزال" أبعد وأعمق من إنهاء حكم الأسد ورقعة الشّطرنج في المنطقة تبدو مفتوحةً أمام الأطماع الاسرائيليّة
لقد استبدلت إيران سريعًا "التّخادم" مع الأميركيّين بـ"الإيهام" المتناسل من "التقيّة". فبيع الوهم تجارة أجادتها إيران طوال 18 عامًا أي منذ عدوان تموز 2006 على لبنان. وكلّنا يتذكّر خطابات نصر الله النّاريّة الهادفة لتوهين قوّة إسرائيل، وتعظيم قدرات المقاومة بالانتقال إلى "وحدة السّاحات" و"محور المقاومة"، وآخرها خلال مرحلة "إسناد غزّة" عندما تحدّث عن قدرة المقاومة على تدمير مربّع "غوش دان" خلال نصف ساعة فقط. وسبق أن سجّلنا اعتقادنا بأنّ نصر الله مات مغشوشًا بحقيقة شعارات إيران وقوّتها وقدرتها، لدرجة جعلته يتّكئ على تلك القوّة في تهديد إسرائيل وقبرص معًا!
بدون شك، أزال زلزال سوريا كل مساحيق القوّة لإيران. وبالمعنى الاستراتيجي يُمكن الجزم أنّ الزلزال هو أبعد وأعمق بكثير من إنهاء حقبة حكم الأسد. فالزّلزال أطاح بكل ما راكمته إيران واستثمرته في سوريا، فقد أخرجها من سوريا بإذلال دراماتيكي عبّر عنه تخبّط طهران، فلم تسعف اللّغة الديبلوماسيّة وزير خارجيتها سوى بتحميل بشّار الأسد والجيش السوري مسؤوليّة سقوط سوريا بيد من وصفهم بـ"الإرهابيّين"، إضافةً لتنبّؤاته باندلاع حرب أهليّة وطائفيّة فيها.
وتوازيًا مع أداء أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا) ومساحيق التّجميل الهادفة لتنظيف صورته توازيًا مع إعلان أميركي بترجيح شطب اسم "هيئة تحرير الشّام" عن لوائح الإرهاب، استجاب بنيامين نتنياهو لأمنية ترامب في "توسيع مساحة إسرائيل الصّغيرة"، فتوّغّل جيشه بعمق 14 كلم في الأراضي السّوريّة العازلة منذ حرب 1973 بحجّة خروج الجيش السّوري منها بالتزامن مع شنّ الطّائرات الإسرائيليّة سلسلة غارات جويّة استهدفت مقرّ قيادة الأركان في دمشق وعددًا من قواعد الجيش السّوري في طرطوس واللّاذقية وجبلة وبانياس ودرعا وغيرها... التغوّل يهدف منه نتنياهو إلى إجبار سوريا على توقيع اتفاقيّة بديلة لاتفاقية "فك الاشتباك" 1974. أمّا الغارات فتهدف الى تصفير قوّة الجيش السّوري ضمانًا لأمن إسرائيل أقلّه لعشر سنوات مقبلة.
العيْن ينبغي أن تبقى مفتوحةً على العراق بوصفه "درّة تاج" النّفوذ الإيراني
لن نتوقّف كثيرًا عند مكتسبات الدّول الإقليميّة ومنها تركيا من زلزال سوريا، ولا عند خسائر بعضها وخصوصًا إيران، فرقعة الشّطرنج في المنطقة تبدو مفتوحةً أمام الأطماع الاسرائيليّة ليس في توسيع مساحة إسرائيل فحسب، وإنّما في قلب موازين القوى التي انطلقت عام 2003 من العراق.
بهذا المعنى، فالعيْن ينبغي أن تبقى مفتوحةً على العراق بوصفه "درّة تاج" النّفوذ الإيراني، والذي تعتمل فيه إرهاصات التّغيير القائمة على ضرب وشطب مرتكزات إيران في العراق الذي لإسرائيل حساب معه يريد نتنياهو أن يصفّيه مع "المقاومة الإسلاميّة في العراق" جرّاء انخراطها في إسناد غزّة، ما يعنيه ذلك من خلق وقائع انقلابيّة جديدة في العراق، حيث عبّر بعض ساسة العمليّة السّياسيّة المأزومة مثل نوري المالكي وهادي العامري عن توجّسهم العميق حيالها انطلاقًا من زلزال سوريا الذي أعاد ترسيم التضاريس الاستراتيجيّة في المنطقة بدءًا من قطع طريق طهران، بغداد، دمشق، بيروت، أو طريق قاسم سليماني في منطقتَيْ البوكمال مع العراق والقصير مع لبنان.
ما تقدّم يَشي بانفراط عقد "المحور" الذي تلقّى ضربات استراتيجيّة، لتكون الضّربة الحاسمة من نصيب إيران التي دخلت مرحلة "السّقوط الحرّ"!.
(خاص "عروبة 22")