في صباح ذلك اليوم، استيقظ العالم على قرارٍ للرّئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول بإعلان الأحكام العُرفيّة في البلاد، وكانت حجّته في اتّخاذ قراره أنّ أعداءَ له وخصومًا ينتشرون في الدّاخل، وأنّ ولاءهم هو لنظام الحكم الكوري الشّمالي، وأنّه يريد بقراره القضاء عليهم أو محاصرتهم في ركن ضيّق على الأقلّ.
إلى هنا، لا شيء ممّا يمكن أن يكون له أو لمعناه صلة بنا، وإنمّا الشّيء هو في موقف البرلمان الكوري عندما جاءه قرار الرّئيس ليوافق عليه. فالبرلمان رفض القرار، بل ودعا إلى محاسبة الرّئيس على ما أقدم عليه، وخرجت مظاهرات في الشّوارع الكوريّة تدعو لعزل الرّئيس يون، لأنه شوّه صورة بلادهم أمام العالم، وفي مرحلةٍ لاحقة جرى اتهام الرّئيس من جانب النّيابة العامّة بتهمتَيْن: الخيانة، وإساءة استخدام السّلطة.
الناخب لن يكون قادرًا على الاختيار ما لم يكن قد حصل على التّعليم الذي يؤهّله لذلك
هنا نتوقّف ونتأمّل موقف البرلمان بالذات، لأنّ موقفه دلّ على أنّه منتخب بجِدٍّ، ولأنّه منتخب فإنّه كان لا بدّ أن يتّخذ من المواقف ما يجعله متّسقًا مع رغبات النّاخبين الّذين جاءوا بأعضائه إلى مواقعهم فيه كسلطة تشريعيّة للبلاد.
هنا أيضًا نجد أنفسنا أمام برلمان متّسق مع نفسه، لأنّه يعرف أنّ البرلمان يتشكّل في أي بلد ليمارس مهمتَيْن لا ثالث لهما: الأولى مراقبة أعمال الحكومة أي السّلطة التّنفيذيّة، والمهمّة الثانيّة هي تشريع القوانين في حياة النّاس. وبما أن الرّئيس هو رأس السّلطة التّنفيذيّة، فلقد كان لا بدّ للبرلمان أن يقف من قراره موقفًا يقول إنّ هذا برلمان منتخب، وإنّ هذا رئيس يحاسبه برلمان البلاد.
وبالطّبع لم يكن هذا كلّه ممكنًا، ما لم يكن النّاخبون الذين جاءوا بأعضاء البرلمان في أماكنهم، ناخبين متعلّمين بما يكفي، وإلّا فلو أنّهم كانوا غير متعلّمين لما كانوا في الأصل قد استطاعوا اختيار أعضاء البرلمان الذين يعبّرون عنهم في لحظة كهذه كما يجب، وما كانوا قد استطاعوا المجيء بنوّاب يُدركون أنّ للبرلمان وظيفة في مكانه، وأنّه ليس مجرّد كيان شكلي أو صورة.
التّعليم الكوري الجنوبي هو البطل في هذه القصّة كلّها، وهو بطل خفي لا نراه في إطار الصّورة ولا يتبدّى لنا من بعيد، ولكنّنا لو تأمّلنا تفاصيل الصّورة جيدًا، فسوف نراه في موضعه هناك في خلفيّة الصّورة.
إذا شئنا ممارسة برلمانية أو ديموقراطية جادة على أرضنا فالأساس فيها تعليم جيّد يتلقّاه أبناء كلّ قُطر عربي
لذلك، فإنّنا إذا شئنا ممارسة برلمانية أو ديموقراطية جادة على أرضنا هنا في بلاد العرب، فالأساس فيها تعليم جيّد يتلقّاه أبناء كلّ قُطر عربي، ولا أساس آخر يمكن الاستناد إليه في الموضوع. فالنّاخب المتعلّم هو ناخب قادر على الاختيار، وهو ناخب قادر على التمييز بين نائبٍ في البرلمان سوف يكون نائبًا كما يقول الكتاب، وبين نائبٍ آخر سوف لا يكون له من الأمر إلا مُسمّاه الظّاهر أمامنا لا أكثر من ذلك ولا أقلّ.
لقد عشنا نسمع أنّ العمليّة الانتخابيّة الصّحيحة هي التي يستطيع خلالها النّاخب أن يضع صوته في صندوق الاقتراع من دون تأثير خارجي عليه. وعلى الرّغم من أنّ هذا صحيح مبدئيًّا، إلّا أنّه ليس أهمّ ما في الموضوع، لأنّ هناك ما هو أهمّ من ذلك.
الأهمّ هو مدى قدرة النّاخب نفسه على الاختيار، ولن يكون قادرًا على الاختيار ما لم يكن قد حصل على التّعليم الذي يؤهّله لذلك، وإلّا فإنّه يمكن أن يضع صوته في الصّندوق من دون تأثير خارجي عليه في المسافة من بيته إلى مقر الاقتراع، ثم يختار في النّهاية الاختيار الخطأ، لا لشيء، لأنّه غير مؤهّل أساسًا للقدرة على الاختيار بين شيئَيْن، أو شخصَيْن، أو خيارَيْن معروضَيْن عليه.
الأمّة التي تراهن على التّعليم الجيّد هي أمّة تراهن على "حصان رابح"
وكثيرًا ما سمعنا أو تابعنا عمليّات لشراء الأصوات في أكثر من محفلٍ انتخابي عربي، ولم تكن هذه العمليّات سوى الوجه الآخر للتّعليم غير الجيّد الذي تلقّاه المواطنون الذين لمّا صاروا ناخبين كان من السّهل شراء أصواتهم.
لو عدنا إلى المشهد الكوري الجنوبي، فسوف نرى التّطبيق العملي لما أقوله، وسوف نلمح وجود أثر التّعليم بين ثنايا المشهد، وسوف يتّضح لنا بالدّليل العملي أنّ الأمّة التي تراهن على التّعليم الجيّد هي أمّة تراهن على "حصان رابح".
(خاص "عروبة 22")