الوَاقِرُ في قناعات هذه الدّول المتربّصة، أنّ طبيعة الانقسام الطّائفي الذي أصبح ثقافةً في لاوعي المجتمعات السّورية والعراقية واللّبنانية، ليست إلّا ظاهرةً تخدم مصالحها في المنطقة وجسرًا آمنًا للعبور إلى تحقيق استراتيجيّة التّقسيم وإعادة تشكيل الشّرق الأوسط بما ينسجم مع شموليّة مخطّطاتها الجيوستراتيجيّة في العالم.
صرّح جوشوا لانديس، مدير مركز دراسات الشّرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، بعد انهيار نظام الأسد، بأنّ المرحلة المقبلة في سوريا ستشهد تصفيات مسترسلة للحسابات الدّاخلية وتفاقم الانقسامات الطّائفيّة والعِرقيّة. ومُخطئ من يعتقد أنّ فكرة التّوافق السّياسي التّي بات يردّدها الكثير، ستضمن ذلك التّوازن بين الأطراف المختلفة في سياق حاضنة الدّول الكبرى، ما دامت إسرائيل وحلفاؤها يتحكّمون في اللّعبة بكلّ تفاصيلها ويشترطون نوعًا من الاستقرار المستنبط من صنيعهم.
حرب "حماس" و"حزب الله" جعلت أميركا تكتشف خطأ تخلّيها التّدريجي عن نفوذها السيّاسي المباشر في المنطقة
وإذا كانت القوى الإقليميّة والدّولية تسعى الآن، إلى احتضان الثّورة وتأطيرها تجنّبًا للانفجارات المتتاليّة واستفحال الفوضى الدّائمة، فإنّ تضارب مصالحها والبحث عن تكتّلات داخليّة وخارجيّة، سيجعلها تجنح إلى أسلوبها التّقليدي في خلق جماعات وكيلة ومسلّحة تجعل الاستقرار السّياسي مرتهنًا إلى نوعية مصالحها.
إنّ ما حدث في سوريا بالاتفاق على "خلطة" إنهاء حكم الأسد، يقوم أساسًا على تكتيك تلغيم النّظام السّياسي المصنوع الذي سيحكم في مرحلة ما بعد الأسد. هذا يعني أنّ المستقبل القريب لهذه "الطّبخة" كمرحلة موالية، سيكون طوع إسرائيل برعاية أميركيّة لإحداث انفجار داخلي مجدّدًا، وتمكين أميركا أخيرًا من تقسيم سوريا، كمّا عبّر عن ذلك دونالد ترامب.
سنعيش "سايكس – بيكو" جديدًا يقوم هذه المرّة على فكرة "تصحيح الحدود" التي رسمتها مقرّرات مؤتمر "فرساي"
من جهة أخرى، ستعمل أميركا، وفقًا لهدف جيوستراتيجي على إعادة تمركزها في سوريا، لأنّ حرب "حماس" و"حزب الله"، جعلتها تكتشف خطأ تخلّيها التّدريجي عن نفوذها السيّاسي المباشر في المنطقة، وانفلات إيران من قبضتها. وهذا ما صرّح به نائب مساعد وزير الدّفاع الأميركي لشؤون الشّرق الأوسط دانيال شابيرو في مؤتمر حوار المنامة الأمني. كما صرّح ترامب عبر منصّة "إكس" بأنّ روسيا في حالة ضعف بسبب حرب أوكرانيا، وبأنّ إيران قد فقدت قوّتها بسبب انتصار إسرائيل، وهذا يعني تأشيره بالواضح إلى ضرورة استغلال هذا المعطى السّياسي وتحويله إلى خرائط جيوسياسيّة، تكون فيه مسألة العرب والقضيّة الفلسطينيّة ملحقات جغرافيّة وسياسيّة تابعة للإدارة الإسرائيليّة بحراسة عُليا ووحيدة من طرف أميركا.
كلّ المؤشّرات تلمّح إلى أنّنا سنعيش "سايكس – بيكو" جديدًا، يقوم هذه المرّة على فكرة "تصحيح الحدود" التي رسمتها مقرّرات مؤتمر "فرساي". ويبقى السّؤال أخيرًا، هل ما تشهده المنطقة العربيّة ناتج عن أنظمة سياسيّة عربيّة متخاذلة، أم عن مجتمعات عربيّة جاهلة؟.
(خاص "عروبة 22")