وجهات نظر

سوريا والألغازُ الثّلاثة

سيظـلّ لغـزًا محيِّـرًا ذلك الانـهيـارُ السّريـع للنّظام السّـوريّ، الذي لم يـأخـذ من الوقـت سوى أحـد عشر يومًـا، فيما لم تكـن أوضاعُـه توحي بهـذا القـدْر الكبير من الوهْـن حتّى عـهـدٍ قريب! و"الأَلْـغَـزُ" من هـذا لغـزُ استـنـكاف الجيـش السّـوريّ عن خَـوْضِ قـتالٍ في أيٍّ من المـدن التي سقـطت في قبضـة الفصائل المسلّـحة (التي لم تُـقاتـل الجـيشَ هي الأخرى إلا جـزئـيًّـا في حلب)! بَـدَا كما لو أنّ ثـمّـة مواطَـأَةً - مُعْـلَـنةً أو مضـمرة - بين الجيـش والجماعات المسلّحة على عـدم المواجهـة، وعلى نقْـل النّـفـوذ من فريقٍ إلى فريقٍ.

سوريا والألغازُ الثّلاثة

لعلّها تكون ثـمرةَ تفاهُـمٍ بين القيادتَيـْن العسكريّـة والسّياسيّة في سوريـا؛ أو ثـمرةَ تفاهُـماتٍ إقليميّـة - دوليّـة (روسيّـة - تـركـيّـة - إيرانـيّـة)؛ أو لعلّها تكون ثمـرةَ انقـلابٍ عسكريّ غيـر مُعلـن ارْتُـئِيَ أنّ المصلحة تـقضي بـه وتـقضي بالتّـضحيّـة بالـرّئيس وأركان حكـمه حمايـةً لما تبقّـى ولِـمَن تبقّـى بعد أن تُـرِك النّـظامُ يواجه مصيـرَهُ وحيـدًا... وسوى تلك من الاحتمالات والأسئلة التي يستدعيها لُـغـزُ هـذه "النّـازلة".

وسيـظـلّ لُـغـزًا محيِّـرًا ذلك الإحـجامُ الصّـريحُ من الحليـفَـيْـن الرّوسيّ والإيـرانيّ عن دعـم النّظام والجيـش في سوريـا، على نحـوٍ بَـدَا خارج كـلّ التّـوقّـعات، على الرّغم من عِـلْمِهـما بأنّ خسارتَـهما الحليـفَ السّـوريّ ستـكون، بالتّـعريف، خسارةً لسـوريا الموقـع والنّـفـوذ: الموقـعُ الذي يسمح للأسطول الرّوسيّ بالوجود في المتوسّـط، والذي يفـتح طريق إيران إلى لبنان وإلى التَّـماس مع فلسطين المحتـلّـة؛ والنّـفوذُ الرّوسيّ في منطـقة أُخْـرِج منها الاتّـحاد السّـوفـيـاتـي في ما مضى (من مصر ثـمّ من العـراق)، والنّـفـوذ الإيرانيّ الذي كان يسمح به المكانُ الجيـوستـراتيجيّ السّـوريّ في زمـنٍ أمكن فيـه لطـهران أن تديـر محْـورًا في الإقـليم.

يتّصل بخفايا لغز اللامبالاة العربية الرسمية التّنكُّب عن القيام بأيّ مبادرة تكـبـح جماح تركيا لاختراق الدّاخل الأمنيّ العربيّ

هكذا، وبحساب الرّبـح والخسارة، يَـحَـار المرء في تـفسير أسباب إحجامٍ عن الدّعـم يُـعادِل فـقـدانَ امـتـيازِ المـوقع: هـل كان ذلك - حـصـرًا - لأنّ روسيا غارقة في حرب أوكرانيـا ولأنّ إيران تلـقّـت ضرباتٍ موجِعـةً أثـنـاء الحرب الصّـهـيونيّـة على لبنان، أم إنّ وراءَهُ أسبابـًا أخرى أبْـعـدَ أثـرًا؟

وثـالثـةُ الأثـافي لُـغْـز اللاّمبالاة في السّياسـة العـربيّـة الرّسمـيّـة تجاه ما كان يجري على المسرح السّـوريّ، منـذ السّـابع والعـشريـن من نـوفـمبـر/تشرين الثاني الماضي، مع أنّ نتائـجه ستـرتـدّ، حـكمًـا، على مجمل الوضـع العـربيّ وبخاصّـةً في البلدان العربيّـة المتاخمـة لسوريـا: سـلـبًا أو إيجابـًا.

يكـبُـر حجـمُ اللّـغـز حين نـأخـذ في الحِسبـان أنّ سقـوط النّـظـام في دمشق لـن يعـقُـبه سوى تمـدُّد نـفوذ الجماعات الإسـلاميّـة المسلّـحة في سوريـا. وهـذه، بمـقـدار ما تُـهـدِّد لـبنان الذي خـاض جـيشُه مع "حـزب اللّـه" مواجهـةً مديـدةً معها، تهـدِّد الجوار العـربيّ الذي تـتـحـسّس أنظـمـتُـه السّياسـيّـة وقسـمٌ عظيـمٌ من شعـوبه من أخطارها على الأمـن والاستـقـرار فيها. ويتّـصـل بخـفايـا هـذا اللّـغـز صَـمتُ تلك السّياسـة العربـيّة الرّسمـيّـة عن أدوار تركيـا في السّاحـة السّـوريّة ورعايـتِـها لجماعاتٍ مسلّـحة ينـخرط فيها مقـاتـلـون من بـلدانٍ عربيّـة عـدّة، والتّـنـكُّـب عن القـيام بأيّ مبادرة تكـبـح جِماح تركيا لاختـراق الدّاخـل الأمـنـيّ العربيّ من خلال هذه الجماعات!

اللّحظة لحظةُ تَعْلية المصلحة العامّة في وحدة الوطن

سـقـط النّـظام السّـوريّ وستُـطْوى بسقـوطـه حقـبـةٌ سياسيّـةٌ في سوريـا والبلاد العربيّـة، بما لها وما عليها، ولكـنّ على الجميع - في سوريا والجـوار العـربيّ - أن يسعى جاهـدًا إلى قطع الطّـريق على مشـروع إسقاط الدّولـة على نحو ما حصل، بشـكلٍ مـأسـاويّ، في العـراق المحـتـلّ وليـبـيا المنكـوبة لئـلاّ تـغْـرَق بـلاد الشّـام في فـوضى ليس يُـعْـلم مـداها. إنّ اللّـحظة لحـظـةُ العـقـل والتّـبصُّـر لا لحظـة الغـرائـز والأهـواء؛ لحظةُ تَـعْـليـة المصلحة العامّـة في وحـدة الوطـن (وحـدة الشّـعب والـدّولة) واستقـرارِه وسِـلْـمِـه المدنـيّ، لا لحظـة القـصاص والأحـقـاد وتصفية الحسابات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن